-->

الأحد، 14 ديسمبر 2025

الفلسفة اليوم: خرائط جديدة لعقلٍ يبحث عن هويته

الفلسفة اليوم: خرائط جديدة لعقل يبحث عن هويته

     مع اقتراب عام 2025 من أفوله، وبلوغ الإنسانية نهاية ربع قرن من الألفية الثالثة، يتراءى الإنسان وكأنه يواصل سيره في عالمٍ بالغ الاضطراب، تتكاثف فوقه الوقائع والأفكار والتقنيات المستجدة، بل وحتى الأوبئة، في تراكم متسارع يشبه طبقات زمن متوتر لا يعرف السكون. وفي خضم هذا الإيقاع المتلاحق، تُواجه الفلسفة – بوصفها ممارسة معرفية عريقة تتوسل التحليل الدقيق، والتأمل المتأني، والسعي الدائم إلى استجلاء معنى الوجود وحدود المعرفة – سؤالاً وجوديًا مُلحًا: أي موقع لها داخل هذا الضجيج الكوني؟ وما المصير الذي ينتظر أولئك الذين كرَّسوا ذواتهم لحمل مشعلها، في عصر تتغير فيه خرائط الوعي، وتُعاد صياغة التصورات الميتافيزيقية التقليدية بوتيرة لا تكاد تسمح بالاستقرار؟

    لقد شهدت العقود الأخيرة تحولاً عميقًا مسَّ بنية العالم ومعايير الفهم ذاتها؛ تهاوت يقينيات ساد الظن برسوخها ردحًا طويلاً من الزمن، وتغلغلت التكنولوجيا في أدق تفاصيل حياة الإنسان حتى غدت جزءًا من تعريفه، واتسعت الفجوة بين الذات وصورتها عن نفسها. إزاء هذا كله، غدت الفلسفة مُطالبةً بإعادة تعريف وظيفتها: ليس بوصفها حارسةً للمعنى فحسب، بل بوصفها أداة لإعادة قراءة الإنسان وهو يُعاد تشكيله داخل عالم لا يكف عن التحول. ورغم كل ما يُقال عن أفولها أو انحسار حضورها، فإن الفلسفة في أواخر سنة 2025 تعيش لحظةً بالغة الثراء والقلق معًا؛ لحظة تتعايش فيها علامات الأزمة مع ملامح نهضة جديدة، وكأنها تمر بمخاضٍ فكري يفتح لها أبوابًا لم تكن مطروقة: تساؤلات الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي، معنى الحرية في عالم الخوارزميات، أخلاقيات التقدم العلمي، وأزمات الوجود الفردي في مجتمع مُتصل على نحوٍ يزيد العزلة عمقًا.

    إن ما يميز هذه اللحظة أيضًا هو التوتر بين الزمن المتسارع والمعرفة المتسعة: العالم يتحرك بوتيرة تجعل من المستحيل على الفكر البشري اللحاق بكل التحولات، لكن هذا السرعة ذاتها تخلق مساحة للتأمل النقدي وإعادة بناء الرؤى. هنا، تصبح الفلسفة أكثر من مجرد مرشد للحكمة؛ فهي أداة تأملية لإبطاء الزمن، لإعادة النظر في الذات والعالم، ولطرح التساؤلات الكبرى عن معنى الحياة، والعدالة، والوجود، والمصير. وبالتالي يظل السؤال قائمًا بإلحاح أكبر اليوم: أي طريق آلت إليه الفلسفة؟ وأية هيئة اتخذها الفلاسفة وقد بدَّل العصر صورة أدوارهم؟ وهل ما يزال بمقدورهم أن يضيئوا المعنى في زمن تسوده الرؤية الضبابية في كل شيء؟ هيا نُلقي نظرة سريعة.

أولاً: تساؤلات جديدة في عالمٍ متغير ... الفلسفة تعيد اكتشاف مهامها

    لم تعد الفلسفة في زمننا هذا تُصغي إلى ذلك النداء الميتافيزيقي الخالص الذي كان، عبر قرونٍ طويلة، يتردد في أعماقها كصدى بعيد لسر الوجود؛ ولم تعد تُقيم ولائمها حول تساؤلاتٍ تسعى لالتقاط جوهر الكينونة في سكونها الأول، ولا لملامسة الحدود الخفية بين العدم والتجلي. لقد انزلقت إلى ساحةٍ مغايرة، ساحةٍ تتراكم فيها تساؤلات لم يعرف العقل الإنساني لها مثيلاً في أيٍ من أطواره السابقة؛ تساؤلات لا تُولد من تأمل السماء ولا من الإصغاء إلى أنين الطبيعة، بل من احتكاك الوعي بآلاتٍ وتركيباتٍ تقنية تُعيد رسم حدوده، وتُفاوضه على معنى إنسانيته ذاتها.

    على تخوم العاصفة الرقمية، وفي قلب ثورةٍ تُعيد صياغة العالم بالبرمجيات والرموز، بزغت تساؤلات لم يكن ليخطر منها حرفٌ على بال «أفلاطون» وهو يُؤسس جمهوريته المثالية، ولا على ذهن «ديكارت» وهو يطارد اليقين كصيادٍ ماهر، ولا على مسامع «هيدجر» وهو يُنصت للوجود ويستدعي الإنسان إلى مقام الكشف. لقد برزت قضايا يتداخل فيها الأخلاقي بالتقني تداخلاً يُربك كل تصنيف، وتتمازج فيها الحقيقة مع معمار الخوارزمية حتى يُصبح السؤال ذاته مغمورًا بلغةٍ ليست من طينة الفكر التقليدي. صار الفكر مجال اختبارٍ يومي لقدرتنا على الحفاظ على بشريةٍ تتعرض للاهتزاز تحت وقع السرعة، وتحت ثقل الذكاء الاصطناعي الذي لا يني يُوسع أفقه حتى يمس جوهر ما كنا نعده حكرًا على الإنسان.

    هكذا تجد الفلسفة نفسها اليوم، وقد انتزعتها التقنية من أطوار التأمل البطيء، مضطرةً إلى إعادة هندسة أدواتها، وإلى توسيع مداركها حتى تُقيم في زمنٍ لا يمد لها يد الصبر، زمنٍ يتقدم على نحوٍ لا يسمح إلا بتساؤلاتٍ أكثر استعجالاً، وأكثر غنى، وأكثر اقترابًا من صيرورة الحياة. زمنٌ تدرك فيه الفلسفة أن صمتها القديم لم يعد كافيًا، وأن عليها أن تُنصت من جديد، ولكن بآذانٍ قادرة على التقاط نبض العالم في اللحظة التي يتغير فيها بسرعة الضوء.

‌أ. الفلسفة والآلة: من يُفكر ومن يعي؟

    الذكاء الاصطناعي، في مشهدنا الراهن، ليس مجرد تقنية تُضاف إلى رصيد الأدوات التي راكمها الإنسان عبر التاريخ؛ بل هو السؤال الأكبر الذي يعترض طريق الفلسفة، ويُربك خرائطها، ويُعيد رسم تخومها التي ظنت يومًا أنها ثابتة. فجأة وجد الفيلسوف نفسه في مواجهة كيانٍ هجين، لا هو إنسان يُحاور تجربته، ولا هو كائن حي بالمعنى البيولوجي الذي ألفناه، بل منظومة من الخوارزميات تتعلم وتتكيف وتتخذ قرارات، وربما – في مستقبل غير بعيد – تُبدع وتبتكر بطرق لا تُحيل إلى أية خبرة بشرية مباشرة!

    أمام هذا «الآخر» الجديد تتجدد أسئلة الوعي والحرية والمسؤولية، لا بصيغها التقليدية، بل بأشكالٍ تُربك المألوف وتدفع العقل إلى عتبات لم يبلغها من قبل: هل يمكن للآلة أن تفهم حقًا، أم أنها تكتفي بمحاكاة أنماط الفهم الإنساني دون أن تلامس جوهر المعنى؟ وهل يحقّ لنا أن نتساءل عن إمكان امتلاكها إدراكًا أخلاقيًا، أم أنها – مهما تطورت – ستظل أسيرة منطقٍ برمجي صامت لا يعرف التردد ولا الحيرة ولا الندم؟ ثم كيف للإنسان أن يتحمل تبعات خطأٍ ترتكبه خوارزميةٌ صنعها هو، لكنها تعمل وفق استقلالٍ لا يملك هو الإحاطة بجميع مساراته؟ وهل يظل الإنسان، في زمن تتكاثر فيه العقول الاصطناعية وتتمدد في كل مجال، مركز المعرفة ومرجعها، أم أنه صار مجرد نقطة واحدة في فسيفساء واسعة من الذكاءات غير البشرية؟

    إن هذه الأسئلة لا تُربك الفلسفة وحسب، بل تدفعها نحو آفاق جديدة حيث يمتزج القديم بالحديث، ويتصدع المألوف، ويُطرح على العقل سؤالٌ جوهري: ما التفكير؟ وما الوعي؟ وما الذات حين لا تكون حكرًا على الإنسان وحده؟ من هُنا يغدو الحوار بين الإنسان والآلة تجربةً فكرية تتكشف فيها حدود الممكن، ويتجلى فيها ما لم نكن نتصوره عن طبيعة العقل ذاته. إنها لحظة تُحتم علينا إعادة النظر في الإطار الأخلاقي الذي يجب أن يُوجه علاقتنا باختراعاتنا الأكثر ذكاءً، لا بوصفها أدوات، بل بوصفها شريكٌ محتمل في صناعة مستقبل يقترب بسرعة من أسئلة الوجود ذاتها.

‌ب. كوكبٌ يختنق … وفلسفةٌ تُفتش عن معنى جديد للوجود

    من جهة أخرى، لم تَعُد الأزمة البيئية، في راهنيتها الملحة، مجرد مسألة علمية تتعلق بدرجات الحرارة، أو نسب الانبعاثات، أو منحنيات تغير المناخ؛ لقد تجاوزت حدود المختبرات، لتغدو سؤالاً فلسفيًا بامتياز، سؤالاً يهز جذور تصورات الإنسان عن ذاته ومكانه في الكون؛ فالكوكب، وهو يختنق تحت وطأة استنزافٍ متواصل، يدفعنا إلى إعادة التفكير في علاقةٍ ظن الإنسان – عبر قرون – أنها علاقة سيادة مطلقة، فإذا بها تنقلب إلى علاقة هشاشة وتداخل وتواطؤ خفي بين جميع أشكال الحياة.

    في هذا السياق وُلدت الفلسفة البيئية (الإيكوفلسفة) Eco-Philosophy، وتكاملت مع فلسفات ما بعد الإنسان Posthumanism، كخطاباتٍ فكرية تحاول أن تتخيل عالمًا لا يقف فيه الإنسان على رأس الهرم، بل يُنظر إليه بوصفه عقدة صغيرة في شبكة حية مترامية الأطراف، شبكة تُذكرنا بأن الحياة ليست ملكًا لأحد، وأن الوجود لا يدور حول ذاتنا المتضخمة كما كنا نتوهم. لقد بدأت هذه التيارات تُعلن بصوتٍ عالٍ أن عصر الإنسانية المركزية Anthropocentrism يترنح، وأن الفلسفة مطالبة اليوم بتأسيس رؤية جديدة للكينونة، رؤيةٍ تتجاوز ثنائية السيد والموضوع، ليحل محلها منطق التفاعلية والتشارك والتوازن.

    هنا تعود أسئلة العدالة، ولكن في هيئة لم تعرفها الفلسفة من قبل:

  • عدالة بين الأنواع: عدالة تقيس حق الشجرة، والطائر، والشعاب المرجانية، وما تبقى من الغابات القديمة، بالميزان ذاته الذي يُقاس به حق الإنسان؛ عدالة لا تقبل أن يتحول الكوكب إلى مورد وحيد الاتجاه، بل تُعيد الاهتمام بفكرة أن لكل كائنٍ نصيبًا في الوجود لا يمكن مصادرته.
  • عدالة بين الأجيال: عدالة تتساءل: ما حقّ أولئك الذين لم يولدوا بعد؟ ماذا نقول لهم إذا استيقظوا على أرضٍ محروقة وبحارٍ ترتفع أمواجها في صمتٍ ثقيل؟ أية مسؤولية أخلاقية تقع على أكتافنا تجاه مستقبل لن نشهده، لكنه سيحمل آثار أفعالنا كما يحمل الجسد آثار جراحه القديمة؟

    إن هذا التحول الجذري يجعل من الفلسفة اليوم أكثر من مجرد تأمل؛ يجعلها ضرورة وجودية. فالعقل البشري، الذي اعتاد التفكير في ذاته، مُطالب الآن بتوسيع أفقه ليشمل ما هو أبعد من الإنسان: الأرض، والمحيط الحيوي، والأنظمة المتشابكة التي تُكون شرط إمكان الحياة ذاتها. وهكذا يتحول السؤال البيئي إلى سؤال ميتافيزيقي جديد: ما معنى أن نكون، حين لا يكون الوجود ملكًا لنا وحدنا؟

‌ج. سياسة عالمٍ مضطرب: الفلسفة في مواجهة الشعبوية والتفكك

    في عالمٍ تهتز أركانه تحت وطأة الاضطراب، حيث تتكاثر الشعبويات كالأمواج المتلاطمة، وتتناسل صراعات الهوية على تخوم الانتماء، ويزداد الانقسام الرقمي عمقًا حتى يكاد يفصل الإنسان عن ذاته قبل أن يفصله عن الآخر، تقف الفلسفة من جديد في مواجهة العاصفة. إنها لا ترفع شعارات خلاصٍ سريع، بل تستأنف مهمتها القديمة: الكشف، والتساؤل، وإعادة ترتيب المعنى في زمن يتآكل فيه المعنى؛ فتسأل – بصوتٍ قديمٍ ومتجدد – عن جوهر العيش المشترك: كيف نستعيد شرط الاجتماع الإنساني في عالمٍ يستبدل الضجيج بالحوار، والتشرذم بالانفتاح، والاستقطاب بالتقارب؟ وتسأل عن الهوية، تلك التي أرادها البعض سورًا منيعًا، بينما يمكن لها أن تكون جسرًا تتقاطع عليه التجارب وتتجاور فيه الذوات. وتسأل عن الحرية، لا بوصفها شعارًا مجردًا، بل كخبرة وجودية في عصر تُدار فيه الرغبات وتُهندس القناعات عبر خوارزميات ترى في الإنسان مجرد معطياتٍ قابلة للتنبؤ.

    في هذا السياق يقدم مفكرو العصر رؤى متباينة، لكنها تجتمع على القلق والسؤال ذاته: كيف يُعاد بناء الإنسان في زمنٍ يوشك أن يتحول فيه إلى معطى قابل للبرمجة؟ وهكذا، فالفيلسوف الأخلاقي الجديد، الذي يستلهم أفكار الفيلسوفة الأمريكية «مارتا نوسباوم» Martha Nussbaum، ويرى الإنسان من منظور «قابلية الازدهار»، يؤكد أن العيش المشترك لا يمكن أن يُبنى على خوفٍ أو استقطاب، بل على الاعتراف المتبادل بالهشاشة الإنسانية. ويُذكِّر بأن الهوية ليست درعًا، بل قدرة على توسيع الدائرة الأخلاقية لتشمل المختلف والغريب. غير أن النظر في مشروع «نوسباوم» يكشف أيضًا مواضع جدلٍ واعتراض، خصوصًا في دعوتها لحماية الفئات ذات التوجهات الجنسية غير التقليدية؛ إذ أن هذه الدعوة، وإن انطلقت من منطق كرامة الإنسان وحقوقه، قد تتجاهل التعقيدات الثقافية ومرجعيات المجتمعات المختلفة، أو تختزل التنوع الأخلاقي والديني في نموذج ليبرالي عام لا يراعي تعدد القيم. وبالتالي يصبح الاختلاف معها جزءًا من الحوار الفلسفي المشروع، لا إلغاءً لاهتمامها الإنساني، ولا قبولاً غير مشروط بمقولاتها.

    أما مفكرو التكنولوجيا، الذين يسيرون على خُطى الفيلسوف السويدي «نِك بوستروم» Nick Bostrom والأكاديمية الأمريكية – الهندية «شيلا جاسانوف» Sheila Jasanoff، فيرون أن الحرية في عصر الخوارزميات تتعرض لأول امتحانٍ جذري، إذ لم يعد الاستبداد قوة سياسية واضحة، بل أصبح «استبدادًا ناعمًا» ينزلق تدريجيًا عبر توصيات وطرق تصفية معلومات تُشكل وعينا دون أن نشعر. وهؤلاء يطرحون ضرورة تطوير «أخلاقيات الخوارزميات» التي تدافع عن قدرة الإنسان على الاختيار قبل أن تتلاشى تحت سطوة التنبؤ الرقمي. 

    في المقابل، يعيد فلاسفة الاجتماع السياسي صوغ مفهوم الصراع، لا بوصفه لعنة مُدمرة، بل بوصفه طاقة خَلَّاقة، مستلهمين في ذلك أطروحات الفليلسوفة البلجيكية «تشانتال موف» Chantal Mouffe والفيلسوف الألماني «أكسل هونيث» Axel Honneth، حيث لا تُفهم الهوية بوصفها عائقًا ينبغي محوه، بل كاختلاف حي يستدعي التدبير لا الإلغاء؛ فالديمقراطية، في منظورهم، ليست وعدًا بالانسجام التام، بل فنًّا دقيقًا لإدارة التوتر، يسمح بتعايش التناقضات دون أن تنزلق إلى العنف، وبانفتاح التعدد دون أن ينتهي إلى التفتت. ومن هذا المنظور، تتحول الهوية من ساحة صدام مغلقة إلى فضاء مفتوح للتفاوض الدائم حول معنى الوجود المشترك وإمكاناته. 

    على نحو موازٍ، يذهب فلاسفة البيئة الجدد إلى أن أزمة المناخ تتجاوز كونها معضلة علمية أو تقنية، لتغدو امتحانًا وجوديًا يعيد مساءلة صورة الإنسان عن نفسه ومكانه في العالم. فـ«العيش المشترك»، في نظرهم، لا يكتمل ما لم تُدرج الطبيعة في صُلب العقد الأخلاقي الذي ينظم علاقات البشر، إذ لا معنى لمجتمع يتجاهل الشروط التي تضمن استمراره. وهكذا يتسع أفق الوجود المشترك ليشمل، إلى جانب الإنسان، كل ما يجعل بقاءه ممكنًا، وكل ما يمنح وجوده قابلية للاستمرار. 

    مع تَكاثر هذه الأصوات وتجاورها، لم تعد الفلسفة، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، خطابًا مُعلقًا في الفراغ ولا تمرينًا ذهنيًا منزوع الأثر، بل غدت فعلاً إنقاذيًا يسعى إلى أن يهب الإنسان لغةً يتعرف بها إلى نفسه في زمنٍ أضحت فيه الذات هشة، مهدَّدة بالتشظي والذوبان. إنها مسعى دؤوب لإعادة تشييد الجسور التي تصدعت: بين الهوية والغيرية، وبين الحرية والمسؤولية، وبين الإنسان والعالم الذي يأويه، حتى لا ينقلب هذا العالم إلى ساحة عمياء تديرها خوارزميات صمّاء، لا تعرف الرحمة ولا تقيم وزنًا للمعنى.

    بعبارة أخرى، تتبدى الفلسفة، في قلب هذا الزخم المتسارع، كجهدٍ شاق لاسترداد الإنسان من تحت ركام الخطاب السريع، ولابتكار لغة جديدة للعيش المشترك؛ لغة لا تُختزل فيها الهوية إلى سلاح، ولا تنقلب فيها الحرية إلى وهم رقمي مُبرمج سلفًا، بل يغدو الاثنان معًا شرطين تأسيسيين لولادة إنسان قادر على الإصغاء والحضور، وعلى تشييد عالم لا يقوم على الخوف، بل على الفهم.

ثانيًا: الفلاسفة اليوم: بين الانكماش الأكاديمي والانتشار الشعبي

    في السنوات الأخيرة، لم تعد الفلسفة أسيرة القاعات الجامعية ولا امتيازًا محفوظًا للنخب المعرفية؛ إذ شهدت صورة الفيلسوف تحولاً عميقًا في عالم يتبدل إيقاعه وتنقلب معاييره. لم يعد الأستاذ المنعزل خلف مكتبٍ خشبي عتيق، المنكب على المخطوطات، والمقيم في عزلة الأروقة الأكاديمية، هو التمثيل الوحيد للفعل الفلسفي، بل لقد غادر الفيلسوف عزلته التقليدية، وخرج إلى العالم المفتوح: إلى الفضاء الرقمي، والمنصات العامة، وساحات النقاش اليومي، مستفيدًا من قوة وسائط التواصل الاجتماعي التي أعادت تشكيل علاقة الفكر بجمهوره. وهكذا عادت الأسئلة القديمة لتتقدم بثوبٍ جديد، أكثر قربًا من التجربة الحية، وأكثر احتكاكًا بالواقع، في حركة تتأرجح بين انكماش الدور الفلسفي داخل المؤسسة الأكاديمية، واتساعه اللافت في المجال العام. وبذلك غدا حضور الفيلسوف أكثر تنوعًا، وأكثر عرضة للاختلاف والجدل، وربما – على نحوٍ لم يكن متوقعًا – أشدّ تأثيرًا، لا بوصفه حارسًا للحقيقة، بل كفاعلٍ يسهم في إعادة طرح الأسئلة، وإبقاء المعنى حيًا في قلب العالم.

‌أ. الفيلسوف الأكاديمي: المعرفة تحت ضغط الزمن

    داخل أسوار الجامعة يقف الفيلسوف المعاصر في مفترق طرق صعب؛ فهو يحمل إرث التفكير العميق، لكنه يجد نفسه أمام واقعٍ مؤسسي يضغط عليه من كل جانب. لقد باتت الأزمة التي يعيشها الفلاسفة الأكاديميون اليوم أزمة ثلاثية الأبعاد:

  • ضغط النشر المتواصل الذي يحول التفكير من عملية إنضاج إلى سباق دائم مع الزمن، حيث يُقاس الجهد بالعدد لا بالعمق.
  • تراجع أعداد الطلاب في أقسام الفلسفة، الأمر الذي يجعل الاستقرار المهني هشًّا ويُفقد البحث الفلسفي بعضًا من طمأنينته.
  • بيروقراطية تُحجم الإبداع وتزاحم الفيلسوف بمهام إدارية تلتهم الوقت والخيال معًا.

    ورغم هذه التحديات، ما تزال الجامعة تحتفظ بدورها التاريخي بوصفها المعمل الأكثر قدرة على إنضاج الأفكار العميقة، والمكان الذي تُصاغ فيه المفاهيم برصانة، وتُختبر فيه الحجج بصرامة لا يوفرها الفضاء العام. إنها، برغم انكماشها وضغوطها، تظل الموقد الذي لا ينطفئ فيه لهب التفلسف الأصيل.

‌ب. الفيلسوف خارج الجامعة: صعود حكمة الفضاء العام

    على الضفة المقابلة لمؤسسات التعليم العالي، تتشكل ملامح موجة جديدة من «التفلسف العام»؛ موجة تتجاوز الأطر الأكاديمية لتستقر في الساحات المفتوحة، حيث تتجاور التساؤلات الوجودية مع إيقاع الحياة اليومية. لقد ظهر نوعٌ آخر من الفلاسفة – أو المتفلسفين – الذين يتقدمون إلى الواجهة عبر وسائل لم تكن يومًا جزءًا من أدوات الخطاب الفلسفي التقليدي:

  • كتَّاب الرأي على وسائط التواصل الاجتماعي، الذين يُحولون المقال الصحفي إلى منصة للتأمل في قضايا الإنسان.
  • أصحاب البودكاست الذين يستعيدون روح الحوار السقراطي في هيئة صوتية خفيفة الظل وعميقة الأثر.
  • صُناع المحتوى على اليوتيوب الذين يعمدون إلى تقديم الميتافيزيقا وتساؤلات الفلسفة الكبرى ورؤى الفلاسفة بلغة بصرية جذَّابة.
  • رُواد القراءة الذين يجعلون من الكتاب نافذة يتطلع منها جمهورٌ جديد نحو التفكير الفلسفي، من خلال المراجعات والتوصيات والتلخيصات والنقاشات المُبسطة..

    في هذا الفضاء الرحب، تتراوح المخرجات بين تبسيطٍ سطحي يختزل الفلسفة في عبارات براقة، وبين فتح أبوابٍ حقيقية أمام جماهير لم يسبق لها أن اقتربت من عالم الأفكار الكبرى. إنها لحظة دمقرطة الفلسفة (إن صحَّ التعبير)؛ انتقال الحكمة من بُرجها العاجي إلى الشوارع والهواتف، وإلى المقاهي والمنصات الرقمية، حيث تتداخل الأصوات وتتقاطع التجارب، ويصبح السؤال الفلسفي جزءًا من نبض الحياة اليومية، لا امتيازًا معرفيًا محفوظًا في مكتبات الجامعات وأقسامها المختصة.

‌ج. الفلسفة داخل الجامعة: انحسار أم إعادة تشكُّل؟

    تعيش الفلسفة، داخل مؤسسات التعليم العالي، طورًا انتقاليًا دقيقًا يُذكر بتلك اللحظات الحدية التي أشار إليها «مارتن هيدجر» حين تحدث عن تحولات المصير التاريخي للفكر Geschick؛ لحظات لا يكون فيها الفكر بصدد الزوال، ولا قادرًا على الاستمرار في صورته الموروثة. فهي ليست فلسفة تحتضر لتختفي، ولا فلسفة ثابتة على حالها، بل ممارسة فكرية مُعلَّقة بين الانحسار وإعادة التشكل؛ أقسامٌ جامعية تقف على عتبة الإغلاق، وتخصصات يُعاد دمجها في صيغ هجينة يختلط فيها اليقين بالالتباس، وتمويل يتراجع، ووظائف أكاديمية تتقلص بوتيرة متسارعة، وتشير تقارير تعليمية دولية إلى أنها قد تبلغ في بعض السياقات نسبًا مقلقة خلال العقد المقبل. وإلى جانب ذلك، يتصاعد الضغط الكمي على الباحثين، مع ازدياد متطلبات النشر السنوية مقارنة بما كان عليه الحال قبل عقد أو أكثر، بما يرهق فعل البحث ذاته، ويشوه معناه، حتى يكاد التفكير المتأني يبدو ترفًا يصعب تبريره في زمن تحكمه المؤشرات الرقمية ومعايير الإنتاج السريع.

    غير أن هذا المشهد، على قتامة ظلاله، لا يمكن قراءته بوصفه نعيًا للفلسفة، بل هو بالأحرى إعلان أفولٍ لشكلٍ تاريخي معين من تجسدها: أفول حضورها كجزر معرفية معزولة داخل أسوار الجامعة. إنها لحظة انكسار في الشكل، لا انطفاء في الجوهر؛ لحظة لا تصف موت الفكر، بل إعادة توزيع حضوره ومسالكه. وكما ينحسر الماء عن الشاطئ قبل أن يعود في هيئة موجة جديدة، أوسع وأشد قوة، كذلك تبدو الفلسفة اليوم وهي تنسحب من بعض مواقعها التقليدية، لا لتتلاشى، بل لتعيد الظهور في فضاءات أخرى، حاملة أسئلتها القديمة في أشكال غير متوقعة، ومفتوحة على مصير لم يُحسم بعد.

    الفلسفة اليوم تتسرب إلى مناطق لم تُعرف يومًا بأنها «فلسفية»، لكنها باتت في حاجة مُلحة إلى التفكير الأخلاقي والأنطولوجي والإبستمولوجي أكثر من أي وقت مضى، ومن أمثلتها: 

  • أخلاقيات الطب: مع التسارع المتنامي للقرارات الآلية في الممارسة السريرية، وتقدم تقنيات زراعة الأعضاء، والتدخل في البنية الجينية للحياة البشرية، لم يعد حضور الفلسفة في المجال الطبي ترفًا نظريًا، بل غدا ضرورة إكلينيكية وأخلاقية مُلحة. ففي قلب المستشفيات الكبرى، يبرز دور أخلاقيات الطب بوصفه مجالاً وسطيًا يواكب التحول التقني ويحده في آن، حيث يتزايد الاعتماد على خبراء الأخلاقيات للمساهمة في توجيه القرار الطبي، لا من زاوية الكفاءة وحدها، بل من منظور يحفظ الكرامة الإنسانية، ويوازن بين ما تتيحه الإمكانات العلمية وما تفرضه المسؤولية الأخلاقية من حدود ومعايير. وهكذا يغدو السؤال الفلسفي شريكًا صامتًا في غرفة القرار الطبي، حاضرًا كلما تعلق الأمر بالحياة، والهشاشة، وحدود التدخل في المصير الإنساني.
  • سياسات البيانات: في عالمٍ فاق فيه تدفق البيانات كل ما راكمته المعرفة البشرية في تاريخها، لم تعد الفلسفة ترفًا تأمليًا يقف على هامش الابتكار، بل غدت عنصرًا بنيويًا في صياغة أطر الخصوصية ومبادئ الشفافية. فهي التي تمد القوانين الناشئة بمعايير المعنى والحدود، وتمنح النقاش التقني أفقًا أخلاقيًا يتجاوز منطق الكفاءة والربح. وبهذا المعنى، تؤدي الفلسفة دورًا حاسمًا في توجيه المختصين بالأخلاقيات داخل شركات التكنولوجيا، لا بوصفهم حراس امتثالٍ شكلي، بل كوكلاء مسؤولين يسهمون في ترشيد الممارسة الرقمية، وضمان أن يكون التقدم التقني مصحوبًا بوعيٍ إنساني لا يُختزل إلى أرقام أو خوارزميات.
  • علوم الأعصاب: يشهد هذا الحقل تزايدًا لافتًا في مساحات التعاون بين الفلاسفة وباحثي الوعي والإدراك، حيث لم تعد التجربة العلمية مكتفية بذاتها، ولا التأمل الفلسفي منغلقًا على مفاهيمه المجردة. ففي هذا التلاقي الخلَّاق، تتجاور المختبرات مع التساؤلات الفلسفية الكبرى، وتلتقي المعطيات العصبية مع التحليل المفهومي، لتنبثق مشروعات مشتركة تعيد النظر في مفاهيم الجوهر، والذات، والتجربة البشرية ذاتها. وهكذا يصبح الدماغ ليس مجرد موضوع للقياس، بل أفقًا للتفكير في معنى الشعور، وحدود المعرفة، وما يعنيه أن يكون الإنسان كائنًا واعيًا في عالم قابل للتفسير العلمي دون أن يُرد إلى المادة وحدها.
  • الذكاء الاصطناعي: في هذا المجال، تتكشف الحاجة إلى الفلسفة كضرورة وجودية تواكب نشوء أنظمة قادرة على التأثير في القرار والمعنى والمصير الإنساني؛ فمع اتساع حضور الخوارزميات في مجالات الحكم والعمل والمعرفة، يغدو وجود «المستشار الأخلاقي» و/ أو «الفيلسوف التطبيقي» داخل فرق التطوير عنصرًا محوريًا لتوجيه مسار التكنولوجيا. إنه حضور يسعى إلى مواءمة الابتكار مع القيم الإنسانية، وإلى فحص ما يجب فعله، لا مجرد ما يمكن فعله، حتى لا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى قوة عمياء، بل إلى أداة واعية بحدودها ومسؤوليتها داخل العالم الإنساني.
  • القانون والسياسات العامة: مع تصاعد تعقيد قضايا الملكية الفكرية والخوارزميات التنبؤية، يتعاظم دور الفلاسفة القانونيين، ليس بوصفهم مراقبين نظريين، بل كوكلاء متخصصين في تحليل الأبعاد الأخلاقية للتشريعات وصياغة السياسات العامة. وبالتالي، يُسهم الفلاسفة في بلورة توازن دقيق بين حماية الحقوق الفردية والجماعية من جهة، وتشجيع الابتكار التقني والاجتماعي من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يصبح الفيلسوف القانوني مرشدًا لعمليات اتخاذ القرار، قادرًا على إضاءة المسارات القانونية بما ينسجم مع المبادئ الأخلاقية، وضمان أن تتحرك السياسات في فضاء يوفر الحماية والحرية والابتكار معًا، لا أن تنحصر في طرف واحد على حساب الآخر.
  • الإعلام وصناعة المعنى: في زمن أصبح فيه الإعلام ليس مجرد ناقل للواقع، بل منتجًا له، تتعاظم أهمية فلسفة الإعلام بوصفها أداة لإعادة التفكير في عملية إنتاج المعنى وتأثيره على الرأي العام؛ فهي تسعى لإبراز العلاقة بين السرديات الإعلامية والممارسات الاجتماعية، وتضمن وجود مساحة للتفكير النقدي وسط تدفق الرسائل المتسارع. وفي هذا السياق، يتحول الفيلسوف إلى مراقب ومنظِّر لما وراء الصورة، مستكشفًا كيفية تشكيل الواقع في وعي الجمهور، ومُحددًا للآليات التي تمنح المعنى عمقه واتساقه، بحيث لا يصبح الإعلام مجرد أداة تأثير، بل مساحة للتأمل والمساءلة الأخلاقية.
  • إدارة النزاعات وبناء السلم: تُبرز التجارب العملية أن دمج عناصر فلسفية في ميكانيزمات الوساطة – كالاستماع الأخلاقي، والاعتراف بالآخر، وتحليل السرديات – يُثري برامج إدارة النزاعات بشكلٍ عميق، ويعزز قدرتها على تحقيق حلول أكثر استدامة وعمقًا مقارنة بالأساليب التقليدية؛ فالفلسفة هنا لا تعمل كإطار نظري جامد، بل كأداة لتحليل المواقف، وفهم دوافع الأطراف المختلفة، واستكشاف الأبعاد الإنسانية للنزاع، ما يُحول عملية الوساطة إلى فضاء للحوار الصادق والبناء، حيث يصبح السعي إلى السلم تجربة تتجاوز مجرد الاتفاق على المصالح، لتصبح ممارسة أخلاقية وفكرية تعيد تشكيل العلاقات على أسس من الفهم المتبادل والاعتراف بالآخر.

    ما الذي يعنيه كل ذلك؟ يعني ذلك أن الفلسفة تتحول تدريجيًا إلى بنية تحتية معرفية، وأنها وإن كانت قد تهتكت كخيمة قائمة بذاتها، فقد أصبحت نسيجًا داخليًا يتعاظم في كل علم. لم تعد «مادة» تُدرَّس، بل «رؤية نقدية مستقبلية» تُمارَس؛ وقد لا تظل «قسمًا جامعيًا»، لكنها كانت وستغدو «قوة تفسيرية» لازمة لكل تخصص علمي أو تقني أو اجتماعي يريد أن يفهم منهجه ومحتواه وجدواه! الفلسفة اليوم أشبه بما قاله الفيلسوف الفرنسي «جيل دلوز» Gilles Deleuze عن الفكر: ليست كيانًا مستقلاً، بل حركة تُولد إمكانات جديدة داخل كل مجال تلمسه!

    باختصار، ستختفي الحدود بين الفلسفة والعلوم التطبيقية، وسيظهر «الفيلسوف – المهندس» و«الفيلسوف – الطبيب» و«الفيلسوف – المُبرمج»، وسينخفض عدد أقسام الفلسفة التقليدية، وربما اختفت هذه الأقسام تمامًا، لكن عدد الفلاسفة العاملين في قطاعات خارج الجامعة سيزداد بنسبة كبيرة، وستصبح الفلسفة العلمية والتطبيقية أكثر تأثيرًا من الفلسفة البحتة.

‌د. الفلسفة خارج الجامعة: نحو عصر ذهبي جديد

    رغم الانكماش الذي تعيشه داخل أروقة الجامعات، تبدو الفلسفة في فضاء المجتمع العام وكأنها تستعيد شبابها، فتدخل مرحلة من أزهى لحظاتها التاريخية. فما الذي يجعل هذه اللحظة مميزة؟

    أولًا: الإنسان المعاصر يتضور عطشًا لمعنى وجوده وما يحيط به؛ يبحث عن إجابات تتجاوز المعلومات الجاهزة والإحصاءات الباردة. وفي عالم يموج بالبيانات والسرعة، يصبح السؤال عن الوجود والهوية والحرية، وعن الخير والعدل، ضرورة نفسية وفكرية، حاجة تشبه حاجة الرئة للأكسجين.

    ثانيًا: التكنولوجيا سحبت البساط من تحت اليقينيات القديمة؛ فثمة خوارزميات تتنبأ، وذكاء اصطناعي يكتب ويُصمم، وواقع افتراضي يختلط بين الحقيقي بالمتخيل … كل ذلك جعل الإنسان يواجه أزمة معرفة جديدة، حيث تتداخل الفلسفة مع كل فعل يومي لتعيد صياغة المعنى من جديد.

    ثالثًا: الأسئلة الوجودية عادت بقوة بعد أزمات كبرى: الجائحة التي جعلت الموت والعدم حاضرًا في كل لحظة؛ والتغير المناخي الذي جعلنا نُفكر في مستقبل الكوكب؛ والحروب التي كشفت هشاشة الحضارة. هنا، تصبح الفلسفة ضرورة وجودية، مرساة للتأمل والوعي في خضم الفوضى.

    رابعًا: الكتابة الفلسفية المبسّطة فتحت الباب أمام جمهور كان بعيدًا عن الأفكار الكبرى، فأصبحت مقاطع الفيديو، والبودكاست، والمدونات، وحتى الحسابات القصيرة على منصات التواصل، مساحات يمكن للفكر أن يتنفس فيها بحرية، بعيدًا عن قيود الحواجز الأكاديمية.

    خامسًا: الفلسفة لم تعد لغة نخبوية، بل صارت جزءًا من نبض الحياة اليومية: في سياسات البيانات، وفي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وفي قرارات المستشفيات، وفي النقاشات حول العدالة، وفي برامج الوساطة، وفي الإعلام. لم تعد مجرد نصوص تُدرَّس في قاعات مظلمة، بل أصبحت نَسغًا متدفقًا في تفاصيل الوجود، يُغذي فكر الإنسان ويصوغ إدراكه للعالم من حوله.

    الفلسفة الآن مدنية: تعيش بين الناس، تتنفس هواءهم، تتحدث بلغتهم، تحاورهم، وتفتح أمامهم عوالم جديدة من التأمل. ومع ذلك، لم تفقد قدرتها على الغوص في الأعماق، على مساءلة البديهيات، وعلى اكتشاف الغريب والمجهول؛ إنها لحظة تتجلى فيها الفلسفة كفن وممارسة حياتية، كجسر بين العقول والقلوب، وبين الفرد والعالم، وبين المعرفة والعمل، وبين الحلم والواقع.

    ربما لم تعد الفلسفة سيدة التخصصات الجامعية كما كانت في السابق، وربما تقلصت مساحة الفيلسوف التقليدي بين جدران القاعات المغلقة، لكن الفلسفة نفسها أكبر من أية مؤسسة أو جهة صانعة للسياسات التعليمية، وأوسع من أية أروقة يمكن أن تحصرها. لقد تغير المسرح، وتبدل الجمهور، وظهرت أسئلة جديدة؛ أسئلة تتحدى اليقينيات القديمة وتفرض لغتها ورهاناتها الخاصة. الفلسفة اليوم تتنقل بين العقول والقلوب، بين وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، بين مختبرات الأخلاقيات وورش العلوم والتكنولوجيا، حاضرة في كل مكان حيث يحتاج الإنسان إلى التفكير العميق والتأمل الصادق. ومع كل هذا، تظل الفلسفة – كما كانت دائمًا – فن التمهل في عالم تغشاه السرعة، وفن طرح الأسئلة حين يغرق الجميع في الإجابات السهلة، وفن إعادة الإنسان إلى ذاته في لحظة يفقد فيها كثيرًا من ملامحه ويشعر بالغربة عن ذاته وعن العالم.

    الفلسفة لا تكابد أزمة موت، كما يُقال، بل أزمة تحول؛ تحول من الشكل تقليدي إلى الشكل الحي، من مكان محصور إلى فضاء مفتوح، ومن نصوصٍ جامدة إلى ممارسة متجددة للحياة ذاتها. الانكماش الذي تعانيه داخل الجامعة ليس نهاية دورها، بل بداية شكل جديد من حضورها، شكل يتيح للفلسفة أن تتنفس في العالم الحقيقي، أن تشارك في صناعة المعنى، أن تكون جزءًا من تجارب الإنسان اليومية، وأن تستعيد مهمتها الأساسية: مرافقة الإنسان في رحلة الفهم، داخله وخارج نفسه، في محاولة دائمة للوعي بما يجري حوله وما يجري في أعماق كيانه. 

    الفلسفة لم تعد فقط محتواة في الكتب المعقدة التي يعزف عنها جمهور البُسطاء، ولا في القاعات المغلقة، بل هي في كل سؤال صادق، في كل حيرة، في كل محاولة يائسة وجميلة يبذلها الإنسان لفهم العالم والذات، وفي كل لحظة يُطل فيها الفكر على الحياة ليجد معنىً جديدًا للحضور البشري.

    أما عن واقع الفلسفة في العالم العربي في لحظتنا الراهنة، فهو واقعٌ معقّد، يشبه نسيجًا متشابكًا يجمع بين تراث فكري عميق الجذور وبين تحديات معاصرة تعصف بالوعي والممارسة. الفلسفة هنا ليست مُندثرة، لكنها تواجه صعوبات جمة: من ضعف المناهج التعليمية التي تقلل من قدراتها على إشعال التفكير النقدي، إلى الإقصاء المتعمد من قبل الأقسام والتخصصات الأخرى داخل الجامعات في ظل المنافسات الربحية، مرورًا بتدني مستويات النُخبة وأعضاء هيئات التدريس، ثم نقص الحريات الفكرية التي تكبل فضول العقل وتقيد الحوار، والحاجة الماسة لتطوير البحث الفلسفي وإتاحة فضاءات إنتاج معرفي أصيل، ووصولاً إلى تحديات ثقافية واجتماعية وسياسية تشكل حدودًا لا بد من التفكير النقدي في تجاوزها. وفي هذا المشهد، تظل الفلسفة نبضًا خافتًا لكنه حي، يُذكرنا بأن التفكير لا يموت، بل يتحول، ويظل حاضرًا في البحث عن معنى وسط واقعٍ متغير.

    خلاصة ما سبق، وفي ضوء التحولات العميقة في العلم والمجتمع والتكنولوجيا، يبدو أن الفلسفة ستواصل تطورها خارج أروقة الجامعات التقليدية، لتصبح قوة بنيوية متغلغلة في كل فعل معرفي وإنساني. ستستمر الفلسفة في إعادة تعريف معنى الوجود، والهوية، والحرية، والعدالة، وستحضر في كل قرار تقني وأخلاقي وسياسي، مُرشدة للوعي ومتصدية للفوضى المعلوماتية. المستقبل يحمل لها دورًا أكثر حضورية ومرونة:

    لن تموت الفلسفة، بل ستتبدل، وتتفرع، وتغدو نبضًا حيويًا في كل مجال يسعى إلى فهم ذاته والعالم من حوله. 

    لن تموت الفلسفة، حتى وإن اشتغل بها من ليسوا أهلاً لها، وحتى وإن حوربت من دهماء تتصاغر قاماتهم في معيتها؛ فالتاريخ، كما كان دائمًا، قادرٌ على تجاوز هؤلاء عاجلاً أو آجلاً، ليترك المجال لما هو أصيل وقوي وعميق. الفلسفة، بروحها النقدية وقدرتها على التأمل، تتجاوز الصغائر وتظل حية في صميم الوعي البشري، تعيد صياغة التساؤلات الكبرى، وتضيء دروب البحث عن المعنى، مهما حاول بعضهم تقييدها أو طمس حضورها. إنها نبض لا يزول، وحركة لا تتوقف، تتجدد في كل عقل جاد وفي كل تجربة صادقة تبحث عن الحقيقة.

أ. د/ صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم بكلية الآداب – جامعة المنوفية

salah.mohamed@art.menofia.edu.eg