أعيد التأكيد أن ما أرويه في سردية الخروج من النفق إنما هو تجربة ذاتية خالصة، ذات خصوصية قصوى، غير أنها، بحكم تماثل بيئات العمل الأكاديمي، تحمل في طياتها طابعًا عامًا، بل وصارخ العمومية. وأكاد أجزم أن ثمة من خاض – أو يخوض الآن – التجربة ذاتها في صمتٍ مهيب؛ صمت قد تُمليه مرارة اليأس أو جراح الخجل. إننا جميعًا، على نحو أو آخر، في حالة سقوطٍ حر نحو المستقبل، لا ندري على وجه اليقين أين سنستقر؛ فالأحداث تتبدل بخطى مسرعة، والقلق رفيقك كلما اجتزت نفقًا طويل المدى. وما عليك – إن أردت أن تتعايش داخل النفق – إلا أن تُحول سقوطك القسري إلى فعلٍ طوعي، إذ قد يكمن جوهر التحول في زاوية النظر؛ تحولٌ مثير للدهشة والاهتمام، يكفي لتبديل طعم التجربة برمتها. إنها المشاركة البهيجة في الأحزان، التي تغير كل شيء؛ أهي مداهنة للواقع؟ أم انتفاعٌ به؟ أم قفزة متعمدة نحو درجة أعلى؟ سؤال يبقى معلقًا في فضاء المعنى.
لا أتهم أحدًا بعينه، ولا أبرئ نفسي، إن النفس لأمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وما من أحد معصومٍ من الخطأ. لكن ما الخطأ بدقة؟ أهو انحرافٌ عن جادة الصواب التي ارتآها ضميرٌ نوعي لا تدري أهو سليم أم مُشوَّه، أم هو مجرد اختلافٍ بين ما نريد وما يريده الآخرون؟ أهو نزوة عابرة تنفلت من عِقال العقل، أم هو قرار مفروض ننفذه ونحن ندرك عواقبه، ثم نلبسه ثوب التبرير كي ينام في وجداننا بلا وخز؟ هل الخطأ في معاملة الناس بحبٍ ليسوا أهلاً له، فيثقلهم كما يثقل الغريب جيوبهم بهدايا لا يعرفون قيمتها؟ أم هو في صدق النية، وافتراض صدقها لدى الآخرين، حتى إذا انكشف الزيف، كان الجُرح أعمق من أن يندمل؟ أم لعله يكمن في عدم تقدير الهوة السحيقة بين مثالية التصور وعبثية الواقع، حيث تصطدم الأحلام بصلابة الأشياء كما تصطدم أمواج البحر بصخوره؟
الخطأ ربما ليس سوى مرآةٍ تكشف هشاشتنا أمام أنفسنا، فنحن حين نخطئ نرى وجوهنا بلا أقنعة، ونعرف أي كائنٍ نحن حقًا، بعيدًا عن الصورة التي نصطنعها أمام الآخرين. وربما هو درسٌ مُقنَّع، لا يفتضح سره إلا حين نتجاوزه وقد بدَّل شيئًا فينا، أو جرَّدنا من غرورٍ كنا نحمله خفية. والأهم أن ندرك أننا قد أخطأنا أو نخطئ، وأننا نُعاشر الخطأ ونتعايش معه في سيمترية غريبة، كأننا وهو وجهان لعملة واحدة؛ نمده بالحياة من قناعاتنا، ويمدنا بمبرراته، فنظل في رقصة بطيئة معه، نعرف خطواتها ونعرف نهايتها، ومع ذلك نواصل الدوران. لكن الأخطر أن نمضي في الخطأ ونسميه صوابًا، وأن نستسلم لإغواء المبررات حتى نصبح نحن والمسوغات شيئًا واحدًا ... حينها، لا يكون الخطأ حدثًا عابرًا، بل مسارًا نتبناه حتى يغدو قدرنا!
دخلتُ النفق منذ سنوات، كمن يلج طريقًا بلا خارطة، تُغريه فكرة النور في آخره، لكنه لا يدري كم سيمكث فيه، ولا كم سيخسر من نفسه على جدرانه. كنتُ أظن أن الجامعة بيتٌ للعقل، وحصنٌ للحوار، ومحرابٌ للمعرفة؛ كنتُ أظن أن من فيها رفقاء في الفكر، لا خصومٌ في المصالح، وأن المجالس العلمية موائدُ للحكمة، لا ساحاتُ اقتتال. لكن ما رأيته كان شيئًا آخر، شيئًا يُشبه الظل حين يطول في المساء: لا أنت تعرف مصدره، ولا تملك دفعه. في كل زاوية من ذلك النفق، كنتُ أتعثر بحقيقةٍ مؤلمة، وأقف على مشهد يعكس السقوط لا السمو. رأيتُ الكتاب الجامعي يتحول من رسالةٍ إلى صفقة، والمقرر العلمي من اختيار معرفي إلى غنيمة تُدار حولها المؤامرات. رأيتُ من يُطالب بتدريس ما لا يعرف، ويكتب ما لا يقرأ، ويُملي على الطلاب ما حفظه هو ذات يوم، دون أن يسأل نفسه: هل تغير العالم؟
رحلتي داخل النفق لم تكن رحلة في الزمن، بل في الوعي؛ كنتُ أراقب كيف تتغير الوجوه وتبقى الأفعال، كيف يمضي جيل ويأتي آخر، ويظل الصراع هو القاسم المشترك، ويظل الوطن هو الضحية. كم من مرة انشغلتُ بالتفكير في طرائق الإصلاح، أفتش عن المفاتيح بين الركام، وأرسم الخطط على رمال متحركة، فإذا بي لا أحصد سوى غبار الإحباط الذي يعلو كتفي، ويثقل أنفاسي. ومع ذلك، كنت أزيح الغبار بيدي، وأمضي من جديد، كأن الرجاء خيطٌ خفيٌ يشدني نحو المحاولة، مهما ضاقت الدروب وتكاثفت الظلال. وفي عتمة النفق، أدركتُ أن ما يحدث ليس مجرد أخطاء فردية، بل بنية كاملة من التواطؤ الصامت. أدركتُ أن أخطر ما يصيب الجامعة ليس الجهل، بل تشريع الجهل. أن نكتب لوائح تُجمد التخصصات، ونقر مقررات تُكرّس الفردية، ونحمي الكتب البائسة لأنها تُدر دخلاً لا لأنها تفتح عقلاً.
خطوات قليلة داخل النفق، وبعدها لم أعد كما كنت؛ لم أعد أبحث عن النور فحسب، بل صرتُ أكتب على جدرانه، وأفتش في زواياه عن ظلال الحروف التي سقطت من كتبٍ لم تُقرأ، وعن أصواتٍ قديمة حبستها الجدران منذ زمن. كل صدىً كنت أسمعه صار لغزًا، وكل رائحة غبار كانت تحمل تاريخًا لم يُروَ بعد. ومع كل خطوة، اكتشفت أن النفق لم يكن ممرًّا للخروج، بل مسارًا خفيًا، وحجر اختبار، ومسرحًا لمواجهة نفسي، حيث النور الذي أبحث عنه ليس في آخره، بل في قدرتي على رؤية ملامحه وسط الظلام.
على جوانب النفق، تتراصُّ أصنامٌ مختلفة الأشكال والأطوال والأحجام، كأنها حراسٌ صامتون لعالمٍ لا يعترف بالضوء. لكلٍّ منها ملامح غامضة، بعضها يبتسم ابتسامة جامدة، وبعضها يقطب جبينًا من حجر، وبعضها بلا ملامح أصلاً، كأن النسيان نحته. تمر بجانبها فتشعر أن العيون الجامدة تلاحقك، لا لترى خُطاك، بل لتقيس مقدار خوفك أو انكسارك. هذه الأصنام ليست من حجرٍ فحسب، بل من أفكارٍ متصلبة، ومفاهيم عتيقة، ومصالح متحجرة، وذكريات مُثقلة بالغبار؛ بعضها يبدو مألوفًا كوجهٍ قديمٍ التقيته في زمن آخر، وبعضها غريبٌ حدَّ القسوة، يثير فيك رغبةً في الإسراع، وكأن المرور البطيء أمامه سيمنحه فرصةً لافتراسك. ومع ذلك، تظل الأصنام صامتة؛ فهي تعرف أن رهبتها لا تأتي من فعلها، بل من مكانك أنت في رحلة النفق!
هذا صنم كليات القمة والقاع، وأقسام الكثرة والفراغ: تمثال ضخم نُصِب في ساحة الوعي الجامعي العام، يوزع الأقدار على الطلاب وفق اسم الكلية أو القسم، لا وفق موهبتهم أو إبداعهم. يرفع طبقاتٍ إلى السماء ويطرح أخرى في مهاوي النسيان، حتى غدا الطالب يحلُم بالاسم قبل أن يعرف العلم! وذاك صنم الطالب الجامعي، الذي يحصر صورته في وعاءٍ فارغ أو زبونٍ يشتري سلعة اسمها «الشهادة»، متجاهلًا أنه عقلٌ حي وشريكٌ في إنتاج المعرفة ... هذا صنم الكتاب الجامعي: أيقونةٌ ورقية تحولت من منارةٍ للبحث إلى وثنٍ مغلق، تُقدَّس صفحاته كأنها آخر ما أبدع العقل البشري. لم يعد الأمر مجرد اعتماد مرجعٍ واحدٍ هزيل، بل صار مسرحًا لصراع خفي على التربح؛ حيث يُفرض الكتاب على الطالب لا لجدته أو عمقه، بل لأن وراءه سوقًا رائجة، وأرباحًا تتوزع بين من يملكه ومن يفرضه. وهكذا انقلبت المعرفة إلى سلعة، وصار الحبر أثمن من الفكرة، والبيع أهم من الإبداع! وذاك صنم الألقاب: تيجانٌ من حبر وورق، يُلاحَق بريقها أكثر مما تُطلَب رسالتها؛ يتحول اللقب أحيانًا من وسيلة لخدمة المعرفة إلى غاية قائمة بذاتها، وكأن العلم يختزل في حرف أو حرفين يُضافان قبل الاسم!
هذا صنم الدراسات العليا: محرابٌ يفترض أن يكون موئلاً للبحث العميق، فإذا به يتحول إلى سوقٍ لألقاب العاطلين عن العمل والفكر، حيث الرسائل تتكرر بلا إضافة، والبحوث تُنتَج لتملأ الرفوف لا العقول! وذاك صنم المحاضرة التقليدية: طقسٌ يومي يتكرر حتى الملل، يقف فيه الأستاذ ليُلقي، والطالب ليكتب، فيما يغيب الحوار وتذبل التساؤلات. إنه صنم الزمن الأحادي، حيث يسير العلم في اتجاه واحد ... هذا صنم البيروقراطية الأكاديمية: هياكل ضخمة من اللوائح والنماذج والأختام، تُقيم الحواجز بدل أن تفتح الطرق، وتجعل من الإنجاز العلمي رهينة روتين يستهلك الأعمار ويقتل المبادرة! وذاك صنم الإنجازات: تمثالٌ عصري لامع، تجده نشطًا على منصات التواصل الافتراضي. تُعلَّق عليه صور الاستقبالات الرسمية، وصور الشهادات المصفوفة، ولقطات المؤتمرات والمناقشات المزدحمة بالابتسامات، بينما جوهر الإنجاز غائب، والمضمون العلمي هزيل أو منعدم. يتحول النشاط الأكاديمي هنا إلى عرضٍ مسرحي، غايته الإعجاب والمشاركة، لا الإضافة أو الابتكار.
هذا صنم الاعتماد والجودة: صرحٌ مهيبٌ من الشعارات واللافتات، يعلوه ختم ذهبي كتب عليه «اعتماد الجودة». يتزين بالمؤشرات والنسب والجداول والتوصيفات والتقارير، كأنها أختام ملكية على أبواب الجامعة؛ صنمٌ يكتفي بالشكل دون الجوهر؛ حيث تتحول الجودة إلى طقوس من الملفات المكدسة، والاستبيانات الإلكترونية والمطبوعة، والزيارات التفتيشية العابرة، فيما يبقى التعليم على حاله، والبحث العلمي في غفوته. إنه وهم القياس الذي يظن أن الأرقام وحدها تصنع المعجزة، وأن البريق الورقي الإجرائي يغني عن التغيير الحقيقي. وكما أن الأصنام القديمة كانت تخدع الأبصار بهيبتها، فإن صنم الجودة يخدع المؤسسات ببريق معاييره، حتى يغدو الغلاف أثمن من الكتاب! وذاك صنم المنصب الجامعي: عرشٌ خشبي مكسو بالمخمل، يلمع تحت أضواء الوجاهة الزائفة، ويغري الساعين إليه كما يغري الذهب العيون الجائعة، ويحج إليه المريدون التماسًا لوعودٍ مؤجلة. يتحول المنصب هنا من وسيلة لخدمة الجامعة إلى غاية يتقاتل عليها الطامحون، فتشتعل الكواليس بالولاءات والتحالفات، وتخبو شعلة الكفاءة؛ ينسى بعض الجالسين على هذا العرش أن السلطة الأكاديمية عهدٌ ومسؤولية، لا وسامًا يُعلق على الصدر. وكما أن الأصنام القديمة كانت تمنح المريد شعورًا بالقوة الزائفة، فإن صنم المنصب الجامعي يمنح صاحبه وهجًا مؤقتًا يخبو سريعًا، بينما يبقى أثره الحقيقي مرهونًا بما قدَّم من عمل صادق.
هكذا، تصطف الأصنام على امتداد النفق، صامتة كأنها لا تبالي، لكنها في صمتها تبسط سلطانها على العقول والقلوب، وتقتات من ضعف البصيرة وانكسار الإرادة. في هذه العتمة، يمضي العلم الحق كمسافرٍ وحيد، يبحث عن محرابه النزيه، حيث لا تُسمع إلا أنفاس الفكرة وهي تتطهر من شوائب الوهم. وليس غريبًا أن نجد في سجل الفكر الإنساني من أفاق إلى هذا السر قبل قرون؛ فقد نهض «فرانسيس بيكون» في مطلع العصر الحديث ليشير إلى حواجز غير مرئية، سمَّاها «أصنام العقل»: صنم القبيلة، وصنم الكهف، وصنم السوق، وصنم المسرح. كانت دعوته أن يُزيح عن الفكر غبار العُرف، وضباب الألفاظ، وسطوة الموروث، وسحر البريق الزائف، حتى يعود العقل مرآة صافية تعكس الوجود كما هو. لنمض إذن في تأمل هذه الأصنام، واحدًا تلو الآخر، ودون ترتيب، نصغي إلى الحكايات التي نسجت بها خيوط نفوذها، ونحاول أن نفهم كيف تسللت إلى أرواحنا، ومتى منحناها مفاتيح عقولنا!