مع مرور النقاش، بدأ بروتاجوراس يتراجع في مواقفه، وأحيانًا يناقض نفسه من غير قصد. وكان سقراط يستعمل ما عُرف لاحقًا بالطريقة السقراطية (التساؤل المستمر حتى يكشف تناقضات الخصم)؛ وفي النهاية، لم يُحسم النقاش تمامًا، لكن الحاضرين خرجوا بانطباع واضح: السفسطائي يعتمد على البلاغة والإقناع والخداع والمغالطة، بينما سقراط يبحث عن الحقيقة في حد ذاتها، حتى لو لم يصل إلى إجابة نهائية!
من غرائب النفق الإداري الجامعي أن بوابته المضيئة تتراءى من بعيد كمنارةٍ براقة، تخطف الأبصار وتستفز الطموح، تمامًا كحلقة بروتاجوراس، فينطلق إليها الساعون اندفاعًا كأنهم في حجٍّ بلا زاد ولا رفيق. غير أن الداخلين إليها ما إن يجاوزوا عتبتها حتى تتكشف لهم حقيقة أخرى: دهاليز موحشة، ودروب معتمة، وممرات ملتوية، وأركان يخيم عليها صمتٌ ثقيل لا يقطعه إلا صدى البيروقراطية وهي تمضغ نفسها، وجدران عالية تصد الصدى ولا تعكس الضوء. هنالك يتباين الناس؛ فمنهم من يألف العتمة حتى تألفه ويألفها، وتصير مأواه ومطمحه، يتنفسها كما يتنفس الهواء، فلا يرى في الظلام عيبًا ولا في الرتابة خطيئة؛ ومنهم من يلعن الظلمة ويستبصر أنها ليست قدرًا سماويًا بل صناعة بشرية بامتياز، مستشعرًا أن النور الذي أغراه في البداية لم يكن إلا سرابًا قاتلاً. ولعل أعجب ما في هذا النفق أن السائر فيه لا يُمنح رفاهية التوقف؛ فإما أن يساير ظلمته ويعيد تشكيل ذاته على إيقاعه البطيء المرهق، وإما أن يظل على رفضه حتى يستنزف صبره وعزيمته. وهكذا يغدو النفق امتحانًا خفيًّا للإرادة: أيصبر المرء حتى يخلق من عتمته ضوءًا داخليًا يقوده، أم يستسلم لها ويغدو جزءًا من غياهبها؟ وماذا تفعل حين يصبح العلم سلعة، وتغدو المعرفة شهادة، وتبيت الفضيلة ورقة مختومة بخاتم سفسطائي لمن يدفع أكثر!
لكن المأساة لا تقف عند هذا الحد؛ فثمة طائفة ارتضت أن تقيم في الساحات أصنامًا من الكراسي والمناصب والقرارات، ثم انبرت تتعبد لها صباح مساء، تقدم فروض الولاء وتلتمس البركة من المسؤول الأعلى، حتى غدا رضاه عندهم أشبه بالوحي، وأمره منزَّهًا عن النقاش، وكأنما رضا ذلك المسؤول هو غاية الغايات ومناط النجاة! ولأن المهازل في هذا النفق لا تنفد، ترى بعضهم يتفننون في ابتكار طقوس الطاعة: هذا يمدحُ قرارًا أعرج كأنه فتحٌ مبين، وذاك يبرّرُ خللاً إداريًا كأنه حكمةٌ لا تدركها العقول. فإذا اعترض عاقل أو تجرأ صادق، رمَوه بسذاجة الحالم أو قلة الخبرة، وكأن الرؤية الواضحة عيب، والسكوت على الباطل فضيلة! ومع ذلك، تظل في العتمة قلةٌ نادرة، تمشي متعثرة لكنها رافعة الرأس، ترفض الركوع للأصنام، وتسخر في سرها من مهرجانات التقديس الزائف. هؤلاء وحدهم من يتذكرون أن الجامعة لم تُخلق لتكون مسرحًا لطقوس الولاء، بل بيتًا للعلم وفضاءً للحرية. ولعلهم، بصدقهم وصبرهم، هم النور الخافت الذي يفضح الظلام، ويذكر الباقين أن النفق مهما طال، لا بد أن ينتهي بخروج إلى فضاء أرحب.
داخل النفق، كنت أذهب إلى عملي في كثيرٍ من الصباحات مُفتقدًا شعورًا ضروريًا بالرضا الوظيفي، كأنني أُساق إلى مكانٍ لا يحمل لي من اسمه سوى اللفظ؛ أخطو على الطريق متثاقلاً؛ قدَمٌ تتقدم بحُكم العادة، وأخرى تتردد كأنها تبحث عن مُبرر. أستيقظ باكرًا، لا شوقًا إلى درس ولا توقًا إلى لقاء، بل وأنا أُحصي مُسبقًا هواجس اليوم: أي مشكلة ستفاجئني؟ أي مطلب سيتجاوز قدرتي؟ أي وجه سأصادف: وجهٌ ممتعض يرمقني ببرود، أم مبتسم يخفي ما وراءه، أم غاضب يتقن لغة اللوم والتنمر؟ تتزاحم الأوراق في مخيلتي قبل أن ألمسها: تقارير، طلبات، تواقيع، ملفات لا تنتهي؛ كأنني موظف في طاحونة من ورق، أديرها بيدين مثقلتين، فيما روحي تقف على الهامش متسائلة: أين دور العقل؟ أين مكان القلب؟
كنت أدخل من البوابات الكُبرى والصغرى كمن يفر من قدرٍ إلى قدر، وفي صدري صرخة مكتومة تزداد ثِقلاً كلما حاولت أن أخفيها بابتسامة مصطنعة أو بحديثٍ عابر؛ صرخة لا يسمعها أحد، لأنني أخشى أن أطلقها، أخشى أن أُعاب بالشكوى أو أن أُتهم بالجحود. لكني أشعر بها تكبر داخلي كما تكبر النار تحت الرماد. أجلس في مكتبي، وأتأمل الجدران الصامتة. كم مرة شهدت هذه الجدران وجوهًا مرَّت قبلي؟ أساتذة وأجيال، بعضهم استشعر وحشة النفق، وبعضهم اعتاده وأحب المكوث فيه لأطول وقت ممكن. أفتح الملفات أمامي، لكن داخلي يفتح ملفًا آخر: ملف حياتي. أسأل نفسي: هل جئت إلى هنا لأنني اخترت، أم لأنني وجدت الطريق مفروشًا أمامي؟ وهل صرت أستاذًا مهنته التدريس والبحث العلمي، أم مجرد ترس في آلة تدور بلا غاية؟ أراقب الطلاب وهم يعبرون الساحة، وجوههم شابة، أعينهم مليئة بالتساؤلات والأحلام. أتساءل: هل يرون في أساتذتهم قدوة، أم مجرد موظفين يوزعون الدرجات؟ أي رسالة نقدمها لهم إن كنا نحن أنفسنا عالقون بين الرغبة في الرحيل والالتزام بالبقاء؟
أشعر أنني أغدو غريبًا في المكان الذي يُفترض أنه بيتي الثاني؛ غريبٌ لأن الجامعة، التي كان يُفترض أن تكون محرابًا للعلم، صارت مسرحًا للعبث، سوقًا للتنافس على أوراقٍ ومقررات؛ غريبٌ لأن صوتي الداخلي يُذكّرني كل يوم بأنني فقدت شيئًا مهمًا: ذلك البريق الذي يجعل الإنسان يذهب إلى عمله شغوفًا لا مثقلاً، غريبٌ لأن من يحجون إلى مكاتب الإدارة في الدور الأول ليسوا مثلي، ولن أكون مثلهم! وفي نهاية اليوم، حين أغادر الجامعة، أحمل معي صمتي كما يحمل المسافر حقيبته؛ لا أحد يعرف ما في داخلي من صراع، ولا أحد يسمع تلك الصرخة المكتومة التي تتردد في صدري كلما عبرت البوابة. وربما لن يسمعها أحد أبدًا… إلا أنا.
في فضاءات الحرم الجامعي، حيث يُنتظر من الفكر أن يسمو فوق نزعات السوق وضجيج المصالح، يتبدى الكتاب الجامعي وقد تخلى عن صفائه الأول، ليغدو شيئًا أبعد مما أُريد له؛ فما عاد مجرد جسرٍ إلى المعرفة، بل تحول – ويا للمفارقة – إلى سلعةٍ مشتهاة، وذريعةٍ يتكئ عليها الطامعون، وسلاحٍ يُشهر في معارك النفوذ وهيمنة المواقع. وهكذا غاب وجهه المعرفي المشرق تحت أقنعة المصلحة، حتى صار الكتاب شاهدًا على صراعٍ لا على علم، وميدانًا للمكاسب قبل أن يكون رحابًا للفكر.
كان الأستاذ الجامعي يومًا ما صورةً للوقار، لا في الهيبة المعنوية فقط، بل في الحد الأدنى من الكفاية المادية التي تسمح له أن يعمل دون أن يلتف على مهنته. لكن مع مرور السنين، وبين موجات التضخم، وتهرؤ السياسات التعليمية، وتآكل مكانة الجامعة في وجدان الدولة، بدأ المرتب الجامعي ينكمش، حتى صار يُقارَن بأجر موظف حديث في قطاع خاص لا يحتاج فيه المرء إلا إلى إتقان العروض التسويقية! في البدء، صمت الأساتذة علّ الدولة تنتبه، ثم تحدثوا في المجالس المغلقة، ثم كتبوا المقالات، ... تعالت الصرخات، لكن لا أحد أنصت حقًا. وهنا، جاءت الانفراجة من حيث لم تُحتسب، لا سيما في الكليات النظرية: المقرر الجامعي؛ فجأة، صار كل مقرر فرصة مالية، وكل كتاب بابًا للدخل. وأصبح الطريق إلى زيادة الدخل لا يمر عبر وزارة التعليم العالي، بل عبر المكتبات المنتشرة حول أسوار الحرم الجامعي!
هكذا دُشنت قاعدة الصنم الأكبر الذي يتعبد الجميع تحت أقدامه؛ فباسم الحاجة، وُضِعت القيم الأكاديمية على الرف؛ وباسم المرتب المهدور، صارت القاعات تُدار بمنطق السوق، وصار التدريس وظيفة لتعويض ما لم توفره الدولة، لا رسالةً في بناء الإنسان. ومن يومها، بدأ الصراع: صراع على المقررات ذات الدخل الأعلى؛ صراع على المقررات التي تضمن الكتاب الإجباري؛ صراع على تدريس أكثر من مقرر، في أكثر من فرقة، في أكثر من شُعبة. ثم جاءت الخلافات، فالتحزبات، فالمكايدات، فالصراعات، فالشكاوى التي تخرج من مجلس القسم العلمي إلى مجلس الكلية، ومن مجلس الكلية إلى إدارة الجامعة، إلى المجلس الأعلى للجامعات، أو إلى النيابة، ومن النيابة إلى ساحات القضاء! ... هيا نقترب أكثر.