هكذا غابت قداسة الكتاب الجامعي حين غُلف بغبار المنفعة، وتصدعت رسالته النبيلة تحت وطأة الحسابات الضيقة، فخسر الطالب مُرشده، وخسر الأستاذ شاهده! وفي لحظةٍ فارقة من لحظات السقوط، أصبح الأستاذ يتنافس لا على المعرفة، بل على المقررات، يقاتل لا من أجل طلابه، بل من أجل مقرراته؛ يحضر مجلس القسم وفي يده قائمة بالمقررات التي يرغب في أن يقوم المجلس بإسنادها إليه، وفي قلبه نية دفينة لفرض كُتبه، لا لأنها الأصلح، بل لأنها الأقدر على إنعاش جيبه وتكريس حضوره. ولم تسلم العلاقة بين الأساتذة أنفسهم من هذا الانحدار؛ فقد حل الصراع محل التعاون، والتطاول محل الاحترام، والحسد محل الإعجاب، والمصلحة محل الرسالة؛ كبارٌ يرون في الصغار طامعين متطاولين على حصونٍ شُيدت بعرق السنين، وصغارٌ يرون في الكبار طغاة مُهيمنين، أو بالأحري سدنة لاحتكارٍ يسلبهم فُرص الرزق ويكبح أمامهم آفاق الطموح، وبين هذا وذاك، يظل الطالب الغائب الأكبر، يتأرجح بين أن يكون محور العملية التعليمية أو مجرد ذريعة في معركة لا تخصه. وكأن الجامعة لم تعد جماعة علمية تسعى إلى الحقيقة، بل ساحة شبه إقطاعية يتقاسم فيها أصحاب النفوذ والأصوات العالية الغنائم، ويُهمَّش فيها من لا صوت أو سند له!
الأدهى من ذلك أن الكتاب الجامعي لم يعد أداة للارتقاء بالعملية التعليمية كما هو مُعلن في خطط الجودة، بل صار حجر عثرة أمام تطوير المناهج؛ تُجمد المقررات لسنوات لا لثباتها العلمي، بل لثبات مصالح أصحابها، وتُجهَض محاولات تجديد اللوائح الدراسية خشية المساس بأرباحٍ مألوفة. بل إن بعض الإدارات تتغاضى عن التقييم الجاد للكتب الدراسية لأن فتح هذا الباب يعني فتح أبواب العداوة بين الزملاء، وكشف المستور من السرقات العلمية والتواطؤات الصامتة!
من جهة أخرى، لم تعد اللوائح الدراسية انعكاسًا لاحتياجات الطالب وتطورات التخصص وحاجات سوق العمل، بل صارت ميدانًا لاقتسام الأرباح، فإذا ما فُرض تجديدها في إطار مظهريةٍ مألوفة لمواكبة الجديد، أصبحت اللوائح ساحات للمساومات وحياكة الغنائم وتوزيعها بين الأقسام العلمية وداخلها: ضع لي مقررًا أضع لك مُقررًا مقابلاً، ولا عزاء للمقررات البينية، فلسنا بحاجة إليها إن اقتطعت من أرباحنا! كذلك لم تعد خُطط التعيين تُبنى على أسس علمية واضحة أو تُراعى فيها الأولويات الأكاديمية الحقيقية، بل غاب عنها مبدأ ربط التعيين بالاحتياجات الفعلية، وخضعت في كثير من الأحيان لأهواء المتربحين من تخصصات القسم وشُعبه، الأمر الذي انعكس سلبًا على كفاءة العملية التعليمية وجودة المخرجات البحثية!
في هذا السياق، لا عجب أن تتدهور العملية التعليمية؛ فحين يُكتب المقرر ليُباع لا ليُنير، وحين تُضبط اللوائح وخُطط التعيينات على إيقاع المكاسب لا الاحتياجات، وحين تُقاس القيمة العلمية بعدد النسخ المباعة لا بعدد العقول المستنيرة، فلا انتظار لصحوة أو نهضة. بل كل ما نحياه هو «زمن التكلس»، حيث تجثم كتب بائسة على صدور الطلاب، وحيث تتحول قاعات المحاضرات إلى معارض للكتاب الإجباري، لا للقراءة الحرة!
***
في تاريخ الفكر الإنساني، ما كانت المعرفة يومًا سلعة تُباع في الأسواق، ولا كانت «مقررات» تُفرض على الطالب بقرارات بيروقراطية جامدة؛ بل وُلدت المعرفة من قلق السؤال، وتفتحت من رحم التجربة والبحث الحُر، وصارت الحكمة ابنةً للحيرة أكثر مما كانت ثمرةً لمنهاجٍ محدد. أي كتابٍ ذاك الذي فُرض على سقراط حتى ينجح في امتحانٍ لم يُعقد أصلاً؟ ألم يكن في حد ذاته كتابًا حيًّا يمشي في شوارع أثينا، يُسائل العقول كما يسائل النهر ضفتيه؟ لم يترك سقراط وراءه ورقة مكتوبة، لكنه ترك شعلةً في كل قلب التقط شرارة من جداله. وحين جاء أفلاطون، حوَّل الأكاديمية إلى سماء مفتوحة، تسبح فيها الأفكار كما تسبح النجوم في فضاء لا سقف له. ثم أطل أرسطو، فجمع علوم عصره كما تجمع الأرض ثمارها، متحررًا من قيود المقرر، مؤمنًا بأن الفكر أكبر من أن يُختزل في نص واحد!
أي سِعرٍ دفعه ديكارت لقاء كتابٍ ليُرضي به أستاذًا، وهو الذي أعلن أن العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس؟ وأي مقررٍ أُلزم به كانط، وهو الذي جعل من عقله قاعةً للفحص ومن فكره امتحانًا لا ينتهي؟ وأي كتاب عكف نيتشه على حفظه وقت أن انطلق كالعاصفة، يحطم الأصنام الفكرية، ويمحو القوائم الجامدة، صارخًا بأن الإنسان لا يولد إلا حين يصنع قيمه بيديه من رماد الموروث؟ وفي تراثنا العربي، لا يختلف المشهد عند الكبار؛ فالغزالي، الذي رحل في رحلة شك هائلة، لم يرضَ أن يكون أسير كتابٍ واحد، بل جعل من كل قراءة اختبارًا، ومن كل كتاب منزلة في رحلة البحث عن اليقين؛ ولم يكن ابن رشد تابعًا للنصوص، بل خصمًا ومجادلًا ومؤولًا، حتى إذا ضاقت به السلطة، ظل فكره حرًّا في أوروبا. أما ابن خلدون، فقد أسّس علمًا جديدًا من تأمله في حركة العمران البشري، لا من مقررات جامعية عقيمة أو مناهج مفروضة! لم يكن هؤلاء الفلاسفة والعلماء أبناء أنظمة تعليمية مغلقة، ولا كتبٍ مفروضة، بل كانوا أبناء القلق والسؤال، والتجربة والشك، والحرية الفكرية التي لا تُسعَّر في الأسواق ؛ فالمعرفة عندهم لم تكن «تورتة» تُوزَّع على المنتفعين، ولا «غنيمة» تُقتسم في المجالس، بل كانت شُعلةً تتقد كلما اصطدمت بالظلام! إن الفارق بين أولئك العظماء وأساتذة جامعاتنا اليوم ليس فارق زمان فحسب، بل فارق معنى ورسالة؛ فالمعرفة لا تُشترى بفاتورة، ولا تُفرض بقرارٍ إداري، وإنما تُولد من عقلٍ حُر، ومن قلبٍ صادق يسائل العالم بحثًا عن الحقيقة!
***
في زمنٍ متأخر، وبعد أن استُهلك الورق والحبر في كتب جامعية مكرورة، وربما منتحلة، استيقظت الدولة فجأة على فكرة التحول الرقمي، وقرَّرت – دون مقدمات ولا بنية تحتية – أن تنقل الكتاب الجامعي من الورق إلى الشاشة، من المطبعة إلى المنصة، من السوق الرمادي إلى السوق الإلكتروني ... كأنَّ الرقمنة قرارٌ إداري يمكن فرضه بجرة قلم، ويمكن تطبيقه بلقطاتٍ تجميلية وتصريحات عنترية، لا مشروع معرفي يحتاج إلى بيئة، وبنية، وتدريب، وأخلاقيات واضحة!
أُعلنت القرارات بلهجة احتفالية: «وداعًا للعبء الورقي، أهلًا بالمستقبل الإلكتروني»، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى ظهر الوجه الحقيقي للمشروع: لا منصات مؤهلة، لا تدريب فعلي، لا أجهزة كافية لدى الطلاب، لا إنترنت مستقر، ولا ثقافة رقمية راسخة؛ طلابٌ لا يملكون حواسيب، وأساتذة لا يستطيعون التفرقة بين أنواع الملفات الإلكترونية، ومنصات تنهار تحت ضغط الدخول، وأدوات تقييم تثير السخرية! ومع ذلك، مضت التعليمات إلى التطبيق، بل إلى التسويق الإجباري؛ صار الكتاب الإلكتروني إلزاميًا، يُحمَّل من منصة الجامعة، ولا يُفتح إلا برمزٍ لا يُعطى إلا بعد الدفع؛ وصارت الامتحانات الدورية تُجرى على المنصة ذاتها، في صيغة مصمَّمة لدفع الطالب إلى الدفع، ثم بدأ الضغط الصامت: «لا يُمكنك أداء الامتحان دون الكتاب»؛ «لن تدخل على المحتوى إلا إذا دفعت»؛ «الأسئلة من الكتاب فقط»؛ «الكتاب الإلكتروني مضمون وأسئلته حصرية»!
هكذا، تحولت الجامعة من جهة تعليمية إلى وسيط بيع إلكتروني؛ بل أكثر من ذلك: أصبحت الإدارات الجامعية شريكة في العائد رسميًا دون وجه حق؛ فبعد أن كانت تقرر – يومًا ما – بعدم جواز إلزام الطلاب بشراء الكتب، وتُهدد المخالفين بخطابات دورية من مكاتب العمداء والوكلاء، تحولت إلى داعمٍ رئيسٍ لتسويقها، لأنها صارت تحصل على نسبة من حصيلة البيع، فأصبح في المسألة مصلحة، لا سياسة؛ وأصبح من يراقب البيع، هو ذاته من يقوم به ويستفيد منه!
هنا، انكشفت النوايا: لم يكن الهدف الرقمنة، بل إعادة إنتاج السوق القديمة في ثوب جديد، وبتقسيماتٍ جديدة للأرباح؛ الكتاب الورقي، الذي كان يُباع يدًا بيد في أروقة الكليات، وفي المكتبات المحيطة بالحرم الجامعي، صار يُباع من خلال المنصة الرسمية. لا أحد سيتحدث الآن عن الإلزام، لأنه لا يوجد إجبار مباشر، لكن الطالب لا ينجو إلا بالدفع، والمحتوى لا يُفتح إلا بكود، والمنصة لا تفتح ذراعيها إلا لمن دفع؛ أي أننا لم نُلغِ سوق الكتب، بل قمنا بميكنتها، وإعادة توزيع عوائدها!
لم يعد السؤال: هل يستفيد الطالب من هذا الكتاب؟ بل: هل دفع أم لا؟ هل فعَّل الكود أم لا؟ هل دخل على المنصة أم لا؟ ولم يعد الأساتذة يُقيَّمون بناءً على جودة الكتاب، بل على عدد الطلاب الذين قاموا بتحميله؛ بل إن بعض مجالس الكليات صارت تُخحصص الجزء الأكبر من وقتها لمراجعة مؤشرات البيع وكيفية توزيع الغنائم!
كل هذا جرى تحت ستار الحداثة، لكنها حداثة زائفة، تُوظَّف لأهداف مادية، لا علمية. لا أحد يُراجع جودة الكتاب؛ لا أحد يُحاسب على الرداءة الفكرية أو الأخطاء، لا أحد يُحاسب على ما يحدث في مجالس الأقسام والكليات من صراعات وتجاوزات؛ المهم أن يُباع الكتاب، أن يُحمَّل، أن يُفعل الكود، أما ماذا قرأ الطالب؟ وهل فهم؟ فلا يسأل أحد! إن تحويل الكتاب الورقي إلى كتاب إلكتروني لم يكن أزمة في ذاته، بل في الطريقة التي استُخدمت: لا بوصفه تطويرًا، بل بديلاً سهلاً للبيع الإجباري، بغطاءٍ رسمي، ومصالح مشتركة. والنتيجة؟ أن الطالب فقد احترامه للكتاب الجامعي،
والأستاذ فقد سيادته على المادة، والأقسام فقدت مصداقيتها، وبقيت الشاشة – الباردة، الزائفة – تُخبرنا أن التحول الرقمي قد تم، بينما الحقيقة أن العقل لم يتحرك خطوة واحدة!