![]() |
الخروج من النفق (الحلقة السادسة) مفارقة الطالب الجامعي |
لم تعد الكتابة – في تجربتي – فعلاً أختاره حين يطيب لي، كما كنت أفعل قديمًا، بشغفٍ يشبه متعة المشي ليلاً في شوارع الإسكندرية الشتوية، بعد أن تتعافى من أوجاع الصيف ويغادرها الغرباء؛ بل غدت الكتابة فعلاً قسريًا يسكنني، نوبةً تتملَّكني كلما اختنق الكلام في صدري، فأجد في الحروف طريقًا إلى التنفّس، وفي السطور ملاذًا من صخب العالم.
صرخة مكتومة
وليست هذه السردية تنصلاً من ماضٍ أو إنكارًا لأثرٍ تركه الزمن، بل هي أقرب إلى شهادةٍ تتدلى على حافة الذاكرة، كأنها ورقة مُهملة تنتظر من يلتقطها بعينٍ استيقظت من غفوتها، لتصف الواقع كما هو، دون تزييفٍ يُجمِّله أو خوفٍ يُشوِّهه. هي صرخةٌ مكتومة لمن أراد أن يفهم أن المعرفة لا تُفارق الحياة لأنها تخطئ، بل لأنها تُختطف وتُسجن في دفاتر المصالح، حيث تُدار الأفكار بمنطق الحسابات لا بشغف التساؤل. وحين تُختزل الفكرة في ملف، ويُقاس العقل بمقاييس الجداول، تُصبح التساؤلات طقوسًا شكلية تُمارس بفتورٍ لا بإيمان، ويتحول الفكر من رحلةٍ نحو الفهم إلى حركةٍ دائرية تُدير الزمن لا تُدركه، وتُحصي اللحظات بدل أن تُنيرها. عندها تموت المعرفة موتًا صامتًا، لا لأن أحدًا قتلها، بل لأن أحدًا كفَّ عن الإصغاء لنبضها!
لن يبلغك الفهم، مهما توغلت بخطواتك داخل هذا النفق الطويل؛ فالظلال هناك تتآلف وتتقارب حتى تختلط المعالم وتضيع الفوارق بين صوابٍ وخطأ، ويبدو كل شيء كمرآةٍ مكسورة تعكس الشظايا ذاتها بأوجهٍ متعددة. ستبقى تتلمس الجدران بأطراف وعيك كما يتلمس النادل طاولةً في غرفةٍ معتمة، تحاول أن تُبقي جذوة التساؤل نابضة رغم هيمنة الصمت المكتنز، فتلقي أسئلتك كمن يرسل طوق نجاة في بحر من الظلال! وفي العتمة تبحث عن خيط ضوءٍ رفيع، لا ضوءًا ساحرًا يخترق السقف دفعةً واحدة، بل شعاعٌ رقيق يدلك على موضعٍ ربما يُخبرك بالحقيقة. تُدرك باكيًا أن المعرفة لا تُقدَّم كمنحةٍ جاهزة، ولا تُدوَّن في سجلاتٍ تُسلَّم بلا مقاومة؛ إنها تُنتزع من بين أصابع الظلام، ببطءٍ وبتأني، خطوة بعد خطوة، وبإصرارٍ لا يلين، كما يقتلع الزارع نبتةً من ترابها ليعرف طعمها الحقيقي.
مفارقة الطالب الجامعي
في هذه الحلقة، أقف عند الطالب، ذلك الكائن المُعلَّق بين كفتين: كفة الظلم وكفة المسؤولية. أراه أحيانًا مظلومًا، تُثقله منظومة تعليمٍ لا تُنصت إلى حاجته ولا تُهيئ له سبل الارتقاء، وأراه أحيانًا ظالمًا، حين يتنازل عن فضوله الفطري، ويستسلم لسهولة النجاح ولخداع الدرجات التي تُمنح بلا جهد. وربما هو الاثنين معًا: ضحية نظامٍ أفسد ذائقته، وشريكٌ في استدامة فساده بصمته أو لا مبالاته. إنها مفارقةٌ تضعنا أمام السؤال الجوهري في أي حديث عن التعليم: الطالب ذاته، هذا المحور الذي تدور حوله كل السياسات والشعارات؛ هل يستحق فعلاً أن يعبر بوابة الجامعة؟ وهل الجامعة، كما هي اليوم، تمنحه ما يجعله جديرًا بلقب «خريج جامعي» بالمعنى العميق للكلمة، أعني ما يجعله إنسانًا يعرف كيف يفكر، لا مجرد حامل شهادة يعرف كيف يُجيب؟ ربما آن الأوان لأن نعيد النظر في هذه العلاقة المختلة بين الطالب ومؤسسته؛ أن نسأل بصدقٍ وجرأة: من الذي خذل الآخر أولاً: الطالب الذي لم يعد يتعلم، أم الجامعة التي نسيت كيف تُعلم؟
لم تكن الجامعة، في جوهر معناها الأول، بابًا مفتوحًا لكل عابرٍ يطرقها، بل كانت فضاءً مهيبًا لا يدخله إلا من تأهب بعُدة الفكر، وتدرَّب على صرامة السؤال، وتهيأ لرحلةٍ لا تقبل الكسالى ولا المطمئنين إلى ما يعرفون؛ كانت ثمرةً تُقطف بعد نضجٍ طويل، وعتبةً لا تُصعد إلا بخطواتٍ أثقلها الاجتهاد ووقرها الشغف بالمعرفة. أما جامعاتنا اليوم، وقد أُنهكت بسياسات الكم بدل الكيف، وأُغرقت في أمواج الشعارات الباهتة التي تُزين الخطب ولا تُطعم العقول، فقد انقلبت رسالتها على وجهها؛ صارت تستقبل من لم يُهَيَّأ بعدُ لعبور عتبتها، وتُرغم أساتذتها – إن وُجدوا بحق – على بذل طاقتهم في تلقين من لم يتعلم بعدُ كيف يتعلم. غاب الامتحان الحقيقي، امتحان النضج والقدرة على التساؤل، وحل مكانه تساهلٌ يُراد به التجميل الإحصائي، لا البناء المعرفي. وهكذا تحولت الجامعة، من منارةٍ للفكر، إلى قاعةٍ مكتظةٍ بالصدى، تُكرر فيها الأصوات ذاتها دون أن تولد فكرة جديدة!
يصل الطالب إلى بوابة الجامعة مكللاً بأوراق نجاحه، محمولاً على أكتاف شهادةٍ ثانوية تُوهمه – وتُوهم من حوله – أنه اجتاز العتبة الأولى نحو عالم المعرفة والعمل. غير أنك، ما إن تفتح معه أول صفحةٍ من كتاب، أو تطلب منه أن يخطَّ فقرةً واحدةً تخلو من العثرات، حتى تدرك من الوهلة الأولى أن الهوة أعمق مما قد يظن أحدهم، وأن هذا الطالب لم يُربَّ على التفكير، ولم يألف التساؤل، ولم يُعطَ المفاتيح التي تفتح له أبواب الفهم. يدخل قاعة الدرس كما يدخل غريبٌ إلى لغةٍ لا يعرف حروفها، ويجلس ليستمع إلى محاضرةٍ في إحدى النظريات وهو لا يستطيع التمييز بين الجملة والفقرة. تبدو المفاهيم أمامه ككائناتٍ غامضةٍ تتحرك على الورق بلا روح، فيحفظها كما يحفظ المُصلي تلاوةً لا يدرك معناها، ثم يُرددها في الامتحان دون أن تمس وعيه مسًّا حقيقيًا. إن ما يفتقده هذا الطالب ليس الذكاء، بل التربية على التساؤل؛ تلك المهارة التي تصنع الفارق بين متعلمٍ يتلقى، ومتعلمٍ يُفكر.
لم يأتِ هؤلاء الطلاب إلى الجامعة خطأً من تلقاء أنفسهم، بل جُروا إليها جرًّا، بدفعٍ قسري من نظامٍ تعليمي كلما عجز عن الإصلاح فتح بواباته على مصاريعها؛ نظامٌ يرى في الكم تعويضًا عن الكيف، وفي الأرقام واجهةً تغطي العجز؛ مدارس تُخرج أجيالاً لا تُحسن القراءة بصوتٍ يسمعه العقل قبل الأذن، ولا الكتابة دون أخطاءٍ تُنذر بانقطاع الصلة باللغة والفكر معًا، ولا تقدر على فهم نصٍ واحدٍ يتجاوز السطر الأول من التحليل. ثم تُرمى بهم الجامعة كما يُلقى الحطب في موقدٍ بارد، وتُلقى إلى الأساتذة جملةٌ جاهزة، تختصر عجز المؤسسات كلها: افعلوا ما بوسعكم! لكن ما بوسعك أن تفعل مع طالبٍ لم يتعلم كيف يُفكر؟ كيف تُدرّس له المنطق وهو لا يميز بنية السؤال؟ كيف تُعلمه فلسفة اللغة وهو لا يستطيع التفرقة بين الفعل والاسم؟ كيف تُقيم أداءه وهو يرى القراءة عبئًا ثقيلاً، والكتابة واجبًا عقيمًا لا جدوى منه؟ أمامك شابٌّ لم يُمنح فرصة اكتشاف عقله، بل وُجه منذ طفولته إلى الحفظ لا إلى الفهم، إلى التلقي لا إلى الحوار. وهكذا، حين يصل إلى الجامعة، يصل خالي الوفاض من أدوات التعلم، مُتعب الروح، مُنكسر العلاقة مع المعرفة، لا لأنه يكرهها، بل لأنه لم يذق طعمها الحقيقي يومًا ليعرف أنه كان محرومًا منها!
الجامعة ورشة إسعاف تعليمي
في هذه اللحظة، لا تكون الجامعة محطةً فارقة تُعزز الرؤية المعرفية أو ترتقي بالفكر، بل مجرد ورشة إسعاف تعليمي، تعاني العجز عن تقديم ما هو أبعد من الأساسيات؛ فالأساتذة الذين كانوا يجب أن يوجهوا طلابهم إلى آفاق التخصص، يجدون أنفسهم مضطرين للعودة إلى ما يجب أن يكون قد تعلمه الطلاب منذ سنوات مضت. ولا غرابة أن يشعر الأستاذ بثقل هذا العبء، وأن يفتقد الأمل في طلابه، بل ويتحول إلى مجرد موجه يرضى بالحد الأدنى من النجاح، ويشجع على اجتياز الجميع، ليس لتطويرهم، بل فقط لإغلاق الملفات وإتمام ما تبقى من مهام ورقية! ولا غرابة في أن تفرض أغلب الكليات على طلابها دراسة أساسيات اللغتين العربية والإنجليزية، وأساسيات الحاسب الآلي وحقوق الإنسان، وما قد يُتاح من أساسيات أخرى كان من الضروري دراستها في مرحلة التعليم قبل الجامعي، جامعةً بين الحُسنيين: قشورٌ يُجمل بها الطالب، وغنائم تُوزع! وهكذا، ينجح الطالب دون أن يتغير، ويُمنح الشهادة دون أن يُنقح فكره، وتُضاف درجة إلى كشوف الجامعة، لكنها تُنقص من هيبتها. والأخطر، أن هؤلاء الخريجين يدخلون سوق العمل وهم عاجزون عن التعبير، غير قادرين على تحليل موقف، لا يجيدون كتابة بريد إلكتروني بلغة سليمة، وربما أصبحوا أساتذة يمارسون بدورهم تدريس الجهل ... ثم يقال: ما بال الجامعة؟ ونسينا أن الجامعة استلمت خامًا تالفًا من البداية، وأن التعليم المدرسي لم يصنع منهم طلابًا، بل ناجين من نظام تربوي وتعليمي عاجز!
على الضفة الأخرى من المشهد، حين غدت ساحات الجامعات أشبه بأسواق صاخبة للنزاعات والمصالح، كان لا بد أن يكون الطالب أول الضحايا لهذا الانحدار المؤلم؛ ذاك الذي طرق أبواب الجامعة محمَّلاً بأحلام المعرفة، فإذا به يغادرها مثقلاً بالخذلان والفراغ. لم يعد الطالب قلب العملية التعليمية ونبضها، بل تحوَّل إلى مادة خام تُستهلك في دوامة من الجشع لا تعرف سكونًا؛ يُملى عليه المقرّر لا لأنه الأجود علمًا، بل لأنه الأجزل ربحًا، ويُرغَم على اقتناء الكتاب لا لأنه الأوفق لفكره، بل لأنه المقرر الوحيد، رضي أم أبى! وفي ظل هذه الفوضى، أصبح الطالب حقلَ تجارب لنزوات ما أنزل اله بها من سلطان؛ ضاع صوته بين لجانٍ ومجالس علمية تدّعي الحكمة وهي غارقة في الحسابات الشخصية؛ يُدرَّس له مقرر في نظرية المعرفة على يد أستاذ لم يقرأ ديكارت أو جون لوك أو كانط، بل اكتفى بجمع بعض المقالات من الإنترنت وضمَّها في كتابٍ يحمل اسمه؛ يُمتحن في موضوعات لا يفهمها لأنها أُلِّفت بلغة غير علمية، ولا تفتح أمامه بابًا للحوار، بل أبوابًا للإذعان.
ما الذي يُنتظر من طالبٍ يُعامل بهذا الشكل؟ كيف يُنتج فكرًا أو يُبدع نقدًا إذا كانت كل أدوات تفكيره مكسورة سلفًا؟ كيف ينمو حسه الفلسفي أو العلمي إذا كان الكتاب المقرر لا يُعلّمه كيف يُفكر، بل كيف يحفظ ويُجامل؟ لقد أصبح الطالب غريبًا في جامعته، يجلس في القاعة وهو يدرك أن ما يُلقى عليه هو خارج العصر، وأن الأستاذ الذي أمامه يكرر كتابه للسنة العاشرة بذات الأخطاء الطباعية. أصبح الطالب واعيًا، أكثر مما يظن أساتذته، لكنه مُكبَّل بالخوف من الرسوب، أو باليأس من التغيير، أو باللامبالاة التي تنشأ حين يفقد النظام كله معناه؛ وكم من طالب أُهدر حقه لأنه لم يشترِ الكتاب، أو لأنه تجرأ على انتقاد محتواه، أو لأنه طلب مقررًا مختلفًا! كم من طالب ضاع مستقبله لأن المقرر وُزّع ضمن مساومات فوقية، لا علاقة لها بمصلحته!