-->

الجمعة، 10 أكتوبر 2025

الخروج من النفق (الحلقة الخامسة) منعطف الخصخصة

 

مشكلة خصخصة التعليم الجامعي المهيمن على الاساتذة وجعل الربح أساسي
خصخصة التعليم الجامعي

   أسوأ ما يمكن أن يُبتلى به المرء في دهاليز الإدارة الجامعية ليس البيروقراطية ذاتها، بل ذلك الأمل الأحمق الذي يولد من رحم الخيبة، كما لو كان عنادًا داخليًا يأبى أن يموت. في كل مرة كنت أدخل فيها منعطفًا جديدًا من هذا النفق الرمادي، وفي كل مواجهةٍ مع وجوه جديدة أو إدارة جديدة، كان يتسلل إلى رأسي ذلك الصوت الخافت: 

(ربما هذه فرصتك، ربما هذه المرة ستكون مختلفًا، طبيعيًا، صفحةٌ بيضاء تنتظر الكتابة، بدايةٌ لا تشبه ما سبق.)

    لكن ما إن أتوغل في الممرات حتى أكتشف أنني ما زلت في العتمة ذاتها؛ لا شيء يتغير سوى العناوين والأبواب، أما الجدران فصمَّاء كما هي، والهواء ثقيلٌ كما هو، والوجوه متعبةٌ كما هي. أبكي في داخلي بلا صوت، وأمد يدي أتحسس جدران النفق كمن يبحث عن مخرج وهمي للفرار، فلا أجد إلا الصدى يردد أن لا سبيل إلا الاستمرار! 

    وهكذا، كنت أقف دومًا على حافة الأشياء، لا في الداخل ولا في الخارج، أعقد أصابعي في ارتعاشة صغيرة، وأهمس في قلبي بدعاءٍ خفي: ألا يحاول أحدٌ أن ينظر في عيني، ألا يراني أحدٌ وأنا على هذه الهيئة، والشيء الجيد أنهم كانوا لا يفعلون ذلك.

خطوات قليلة لداخل النفق

    عندما تخطو داخل النفق، يخفت صوت الرياح تدريجيًا، كما لو أنك تغادر العالم الحقيقي إلى عالمٍ آخر، بلا اتجاهات ولا صدى. ترفع رأسك نحو الأضواء التي تتسرب من شقوق السقف العالية، فتبدو كأنها أنفاسٌ بعيدة لعالمٍ ما زال يتنفس فوقك. وحين تضبط عينيك على ذلك الضوء الباهت، تلوح لك النهاية هناك؛ بقعة ضوءٍ في آخر الممر، بعيدة كالوهم. 

    الأصوات من الخارج تتلاشى، الأمواج لا تصل، والزمن نفسه يبطؤ حتى يكاد يتجمد. ثم تجد نفسك في منتصف النفق؛ لا عودة ممكنة، ولا وصول قريب. يتحول كل شيء إلى كابوسٍ ثقيل، خطوة بعد خطوة، صمتٌ بعد صمت. 

    ولكن عندما تبدأ الفتحة بالاقتراب، تشعر أن قدميك تخونانك؛ كأن الضوء ينسحب في كل مرة تقترب فيها منه. حتى اللحظة التي تظن فيها أنك لن تصل أبدًا، يسطع أمامك فجأة ... تخرج، فينفجر الصوت من حولك، أضخم، وأشد، وأصدق مما تتذكر. الرياح تحتضنك من جديد، تدفعك إلى الخارج، وهناك، تمتد المدينة الغارقة في أوهامها أمامك. 

    مليون مصباح، وآلاف النوافذ، ومبنى يعلو آخر، كل شيء يبدو مدهشًا وحزينًا، تمامًا كما كان في المرة الأولى التي رأيته فيها!

    أشعر بالتعب؛ وتسيل الدموع بصمتٍ على وجهي. أتذكر ذلك الشعور القديم، حين يكون الألم طاغيًا إلى حدٍ يجعل فكرة قضاء يومٍ آخر معه تبدو مستحيلة. 

    لكنه، في أحيانٍ أخرى، يصبح بوصلةً خفية، يرشدك خلال أكثر أنفاق النضج ظلمةً وفوضى؛ فالألم، على قسوته، لا يمكنه أن يقودك إلى السعادة إلا إذا تذكرته، واعترفت بوجوده، وسمحت له بأن يُعلمك كيف ترى الضوء من جديد. وها أنا ذا أكتب، لا كمن ودَّع منصبًا، بل كمن شيَّع همًا ظل يطعمه قلبه لسنواتٍ ممتدة. 

    كنت أظن أن الفلسفة، ما دامت تُدرَّس، تبقى مُحصَّنة ضد الغياب، وأنها مثل نجمٍ قديمٍ، لا يحتاج إلى من يؤمن به كي يضيء. لكنني تعلمت، متأخرًا، أن تدريسها لا يعني حضورها، وأن النصوص، مهما اتسعت، قد تخلو من أنفاسها، وأن القاعات المضيئة قد تكون مقابر للأفكار التي لم تجد من يصغي إليها. 

    لقد شغلت موقعًا رأيت فيه كل شيء؛ رأيتُ الفكرة وهي تنكسر عند عتبة المصلحة، ورأيتُ المعنى وهو يتفتت على وجوهٍ بلا بريق، ورأيتُ الضوء وهو يحاول أن يمر عبر زجاجٍ غائم، فلا يبلغ إلا كسرًا ووهجًا حزينًا. ولذا، أكتب الآن لا لأسأل: 

ما الفلسفة؟ 

بل لأسأل، بصوتٍ مبحوحٍ من فرط الانتظار: أين اختبأت؟ أفي الكتب التي نسيناها؟ أم في الصمت بين جملٍ لم تُكتب؟ أم في المسافة التي تفصل السؤال عن الإجابة؟ ماذا فعلنا بها؟ ربما لم تختبئ الفلسفة، بل نحن الذين أطفأنا المصابيح، وتركناها تمشي وحدها في النفق، تبحث عنّا.

خصخصة التعليم الجامعي

    في لحظةٍ فارقة من تاريخ التعليم، كان على الدولة أن تنحني قليلاً لتصغي إلى صراخ الجرح، أن تفتح دفاترها القديمة وتراجع الجذور التي نبتت منها الأزمة. كان عليها أن تعترف – بشجاعةٍ لا يعرفها إلا من أحب – أن مدارسها لم تعد تُخرج طلابًا، بل أطيافًا تمشي في الممرات بلا ظل، وأن جامعاتها تغرق في طين التكلس والعشوائية، كمن نسي الحركة منذ زمنٍ بعيد. 

    لكنها، بدلاً من المداواة، اختارت المراوغة، وبدلاً من أن تُصلح ما أفسدته السياسات التعليمية، قررت أن تتزين أمام المرآة وتدعي التجديد، ففتحت الباب – لا مواربًا، بل على مصراعيه – لما سمَّته «الجامعات الأهلية والخاصة» و«البرامج الخاصة داخل الجامعات الحكومية»، تلك التي لم تولد من رحم الحاجة إلى المعرفة، بل من رحم الحاجة إلى الربح. 

    جامعات وبرامج تُلمَّع واجهتها بشعاراتٍ براقة عن «التعليم العصري» و«الابتكار» و«الشراكات الدولية»، بينما جوهرها لا يختلف عن أي سوقٍ تُعرض فيه السلع بألوانٍ زاهية لتُخفي هشاشتها.

الهروب الناعم

    لم تكن هذه الجامعات والبرامج حلاً، بل كانت هروبًا ناعمًا من الحل الحقيقي؛ فالدولة التي لم تعد قادرة – أو لعلها لم تعد راغبة – في أن تنفق على جامعاتها الحكومية، راحت تُلمع البديل الخاص، لا لتفتح بابًا ثانيًا للعلم، بل لتفتح سوقًا جديدة للاستثمار. هكذا، انقلبت الموازين في غفلةٍ من الضمير: صارت المعرفة بضاعة، والدرجة العلمية منتجًا، والطالب عميلاً يُقاس رضاه لا نضجه، والأستاذ موظفًا في واجهة العرض، عليه أن يُرضي الزبون لا أن يُنير له العقل؛ وهكذا، تراجعت الفكرة الكبرى – فكرة الجامعة كضميرٍ للأمة – إلى الخلف، وتقدَّم المال ليتكلم باسم المستقبل. ومن يومها، صار الضوء الذي ينساب من النوافذ الأكاديمية باهتًا، لا يُضيء طريقًا، بل يزيد من تعقيد العتمة.

تحولٌ قاسٍ

    لقد شهدنا تحولًا قاسيًا، انزلق فيه التعليم – أخطر قضايا الأمة وأشدّها إلحاحًا – من ميدان الفكرة إلى ميدان الفاتورة. لم يعد الالتحاق بالجامعة امتحانًا للجدارة، بل اختبارًا للقدرة على الدفع؛ صار الطريق إلى القاعة لا يُعبَّد بالمعرفة، بل بالإيصال المختوم، وصار الطالب لا يُقيَّم على ما فهمه من أفكار، بل على انتظامه في السداد، وعلى ما يملكه هو أو ولي أمره من رصيدٍ في حسابه، لا من نورٍ في عقله. وامتدت العدوى إلى المناهج ذاتها؛ فصارت البرامج الدراسية لا تُبنى على حاجة الوطن، بل على ما يثير الطلب في السوق!

    فجأة امتلأت الواجهات بأسماءٍ براقة، تلمع كالذهب وهي في حقيقتها رقائق من نحاسٍ باهت «ذكاء اصطناعي»، «تسويق رقمي متقدم»، «اقتصاد السوشيال ميديا»، ... إلخ؛ عناوين تسوق الوهم، بينما الجوهر خواءٌ يتردد صداه بين جدرانٍ أنيقةٍ بلا روح. ومن تحت هذا الغطاء اللامع، بدأت الدولة تنسحب ببطءٍ محسوب من دورها التاريخي؛ وبدلاً من أن تُطور الجامعات الحكومية، راحت تُضيق عليها الخناق، وتجفف تمويلها، وتُقلل طلابها، وتُضعف مكانتها في الوعي العام، حتى غدت تُقدَّم في الإعلام كأنها عبءٌ ثقيل على «اقتصاد المستقبل». وفي الجهة المقابلة، تُرفع اللافتات: 

«الجامعة الخاصة... طريقك إلى العالمية»، «الجامعة الأهلية... مستقبل التعليم العصري»، «البرامج الخاصة ... سبيلك لتحقيق حُلم اللقب»؛ شعاراتٌ ملساء، تُغطي على منطقٍ مادي صارخٍ لا يجرؤ أحد على التصريح به: لماذا تُمول الدولة تعليمًا لا يعود عليها بربحٍ مباشر؟ هكذا، تم الاستبدال بهدوءٍ مريب: الخصخصة بالمجانية، والمشروع بالرسالة، والمُمول بالطالب. وتحولت الجامعة – التي كانت يومًا منارة الوعي الوطني ومختبر الحلم الجمعي – إلى مؤسسةٍ ماليةٍ أنيقة، تُصدر شهاداتٍ مصقولة، لكنها عاجزة عن إنارة طريقٍ واحدٍ نحو المستقبل.

    أما الأساتذة، فقد استيقظوا ذات صباح ليجدوا أنفسهم أمام مفترقٍ لم يختاروه؛ إما أن يبقوا في الجامعات الحكومية – بأجورٍ ضئيلةٍ لا تصمد أمام الغلاء، وفي بيئةٍ متداعيةٍ تذبل فيها الفكرة كما يذبل النبات في تربةٍ عطشى، وبين جدرانٍ فقدت هيبتها كما فقدت مكانتها في الوعي العام – أو أن يهاجروا إلى الجامعات الخاصة، حيث تزداد الرواتب، وتُرصع المكاتب بالزجاج والأضواء، لكن يُطالَب الأستاذ أن يخلع عن نفسه آخر ما تبقى من حريته. هناك، يُقاس العطاء بعدد التسجيلات، لا بعدد الأفكار، وتُختصر الكرامة الأكاديمية في شعارٍ بسيطٍ لكنه فادح: عليك إرضاء العميل، لا تزعجه؛ لا بحث، لا اعتراض، لا صرامة؛ المهم أن الطالب – الذي صار يُسمى «العميل» – يبتسم، ويدفع؛ وأن ولي أمر يتفاخر بين الدهماء كذبًا بلقبٍ تمكن من شرائه! 

    هكذا، دخلت الجامعة في أزمة هوية عميقة: أهي مؤسسة أكاديمية تُنبت العقل وتُهذب الفكر؟ أم شركة تعليمية تُنبت الربح وتُهذب الواجهة؟ أهو الأستاذ باحثٌ ومربٍّ وموقظٌ للأسئلة؟ أم موظف مبيعاتٍ يجيد فن التسويق؟ أهو الطالب مشروع عقلٍ يُصاغ على نار السؤال؟ أم مستهلكٌ يدفع مقابل شهادةٍ لامعة كعملةٍ معدنية؟

    أما الطالب، فقد تلقّى الضربة الأعمق؛ في الجامعات الحكومية، يقف غريبًا بين جدرانٍ متصدعة، وقاعاتٍ مكتظة، ومقرراتٍ لا حياة فيها سوى صدى التكرار؛ يدرس لا ليعرف، بل لينجو؛ وفي الجامعات الخاصة، يتنقل بين المكاتب والمصاعد كرقمٍ مالي لا وجه له؛ لا يُسمع صوته إلا إذا تأخر في الدفع، ولا يُطالَب بالجد لأن الجدية تُقلل «الإقبال». صار عليه أن يتعلم كيف يبتسم في وجه الفراغ، وكيف يتخرج محملاً بالتقديرات لا بالأسئلة. وهكذا، تهاوت الجامعة بين جدرانها؛ لم تعد بيتًا للعقل، بل صالةً فخمةً للعقود. وصار الأستاذ غريبًا في مكانه، والطالب غريبًا عن غايته، والعلم غريبًا عن نفسه!