هذا النص ليس دراسة أكاديمية، ولا هو سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، بل هو محاولة للكتابة من موقعٍ نادرًا ما يُكتب منه: من داخل نموذج قريب العهد للإدارة الأكاديمية، لكن بعينٍ لم تَعْمَ عن رؤية هشاشة الواقع وعبثيته؛ من موقعٍ تستطيع منه أن تُراقب من الداخل، وعن قُرب، قصاصات الورق حين يتحرك بها ومعها كل شيء بانتظامٍ مُعلَن، ثم تتراكم وتتراكم شاهدةً على لغةٍ فقدت مصداقيتها، وعلى مهامٍ تعليمية استحالت حسابًا دقيقًا للمكاسب والخسائر المادية. ليست هذه شكوى، ولا مرثية، بل شهادة، أردت أن أضعها أمام من يرغب، لا ليحذر، بل ليفكر؛ فلئن كان للفلسفة أن تظل حية، فلا بد أن تُمارَس، ليس فقط كمنهج تنظيري نقدي، بل كأسلوب في الحياة والعمل.
النفق الذي أعنيه هنا هو العمل الإداري الذي اضطلعت به لمدة سبعة عشر عامًا أو يزيد كرئيسٍ لقسم الفلسفة، نفقٌ طويلٌ بلا شك، سواء بمقياس العُمر المحدود، أو بمقياس الوظيفة الأكاديمية التي تفترض التركيز على الرسالة الجامعية السامية: التدريس والبحث العلمي، وليس الانغماس في عملٍ يستنفد الوقت والجُهد، ربما بلا طائل، بل ويستطيع حاسوب أو نموذج لُغوي مُزود بالقوانين واللوائح الجامعية، وموظف يُجيد تشغيله، أن يقوم بأكثره على الوجه الأكمل، شأنه في ذلك شأن أغلب المناصب الأكاديمية (اللهم إلا ما قد يتعلق بالجوانب العلمية الخالصة)، مُتجاوزًا المشكلات والتوترات والمشاجرات والنوازع البشرية التي ألقت بنا كثيرًا في غيابات التخلف والفشل!
ما أصعب وأقسى أن تتولى منصبًا إداريًا أكاديميًا في وطنٍ لا يضع قضية التعليم على رأس أولوياته المُلحة، وفي مكانٍ تتعاظم فيه صراعات النفوذ والهيمنة والمال والشُهرة من أجل اللاشيء، وفي زمنٍ يتسرب فيه الأشباه (أشباه الأساتذة، وأشباه الكُتاب والمثقفين، وأشباه النخبة وحملة الألقاب) من شقوق الفساد دون وازعٍ من ضمير أو قانون أو مبدأ! وما أصعب وأقسى أن يُفرض عليك الاستمرار داخل النفق، مرة تلو المرة، مكابدًا ظُلمته ووعورة طرقه وتعرجات جوانبه ووحشته دون أن تلمح نهايته!
دخلت النفق مُفعمًا بالأمل والنشاط والرغبة في التغيير، وخرجت منه مُنهكًا بأمراض العصر، وربما مُنكسرًا بخيبات وطنٍ يعشق التمظهر الكاذب، ويُجيد إخفاء الجوهر المشوَّه! كان في القلب بقية من حماسة، وفي الفكر ما يشبه التصميم، لكنني لم أكن أعلم أنني أدخل ممرًا طويلاً، معتمًا، بلا خرائط، وأن النور الذي بدا في أوله سرعان ما يخفت، لا لأنه ينطفئ من ذاته، بل لأن أيدي كثيرة تحرص على إطفائه!
لا أتحدث عن إنجازات أو إخفاقات، فهذه جميعًا تأتي في وطني مُغلفةً بخيبات؛ والخيبات دومًا متشابهة المذاق، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجمعي، لكنها متفاوتة اللون والشدة والمدى. ورغم بصيص النور الذي قد يُغازل عينيك من حين إلى آخر داخل النفق، ورغم ثباتك بأثقال المسؤولية، وخروجك مُحكمًا قبضتك على الراية دون سقوطها، وإن كثرت الطعنات في جسدك وعقلك وروحك، إلا أنك تُدرك في النهاية أن المنصب الإداري وإن سعى إليه كثرةٌ ممن يستمدون منه القيمة، قد يكون لمن زهد فيه بمثابة عقوبة واجبة النفاذ، ووقتئذٍ تُصبح الكتابة عن الحاضر والمستقبل فعلًا مرتبكًا؛ تُمسك القلم لا بثقة من رأى الطريق، بل برجفة من استشعر ضبابًا لا ينقشع!
نعم، لقد كرهت المنصب وإن كان محدودًا، وزهدت فيما سواه أو علاه؛ لم يخدعني البريق الزائف، ولم تستملني الكراسي الملوثة بالتملق والنفاق، ولم أجد في لقاءات كثرة من المجالس والاجتماعات والحوارات سوى مسرحيات فاشلة لإعادة إنتاج العجز وتدوير الخطاب الزائف، مجالس واجتماعات وحوارات قوامها الحقيقي تصفية الحسابات وتغليب المصالح والمظهرية الكاذبة! آثرت أن يكون عطائي فقط لقلمي البحثي من جهة، وللجامعة التي احتوتني من جهة أخرى، حتى ولو عملت بمفردي في كثيرٍ من الأحيان، وحتى لو لم أجد في أغلب الأحيان ظهيرًا إداريًا فوقيًا كنت أراه ضروريًا! ليس ذلك فحسب، بل آليت على نفسي منذ أن توليت المنصب ألا أكتب شيئًا (كما فعل بعضهم) عن مشكلات عملي لمن هم خارجه، خصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي، نظرًا لعدم معرفة رُوادها في الغالب بطبيعة العمل الجامعي ودرجاته ومتطلباته وقوانينه؛ ونظرًا لأن هذه الوسائط في الغالب ساحاتٌ مفتوحة لتسويق الوهم، والتهليل الكاذب، والملائكية الزائفة، فالجميع أنبياء إن صح التعبير!
داخل النفق، وجدت من زملاءٍ لي حبًا كان دافعًا للاستمرار في أوقات ألَّحت فيها علَّي نفسي وأسرتي بضرورة الانسحاب؛ الحب وقودٌ فائق القوة للعطاء والعمل، حتى وإن كان مجرد ابتسامة صادقة عابرة، أو كلمة حق نادرة، أو أداء واجب نتناساه حين نطالب بما لنا وما ليس لنا! ومع ذلك، لم أسلم – من حينٍ إلى آخر – من صراعاتٍ وخلافاتٍ لم أكن يومًا طرفًا فيها بشخصي، إنما قُذفت في أتونها بصفتي؛ ومن شكاوى غُمستُ فيها قسرًا، وكابدت التيه بين سطورها وحُججها، وتعثرت في طرائق الرد عليها أيامًا وليالي طويلة؛ ومن لا مبالاة مورست باحتراف، سرًا وجهرًا، دون أدنى شعورٍ بالذنب؛ ومن إساءاتٍ ألقيت في وجهي وجُلد بها ظهري عمدًا وعرضًا؛ ومن تشهيرٍ تجاوز دفء التناجي بين اثنين أو أكثر إلى صقيع الجهر والعلن، ومن محاولاتٍ لإيذائي دون وجه حقٍ من أقرب من صادقت وأكثر من ساندت! الغريب أن كل هذا، وأكثر منه مما عايشته داخل النفق من ضجيجٍ وصخبٍ لا مبرر له، واصطراخٍ لا محل له من الإعراب، ووقتٍ مُهدر، وطاقةٍ مستنزفة، لم يُزد أو يُنقص لأحدنا رزقًا مكتوبًا، ولم يمنح له وزنًا بين الناس محسوبًا، ولم يُثمر لمسيرة التعليم والبحث العلمي – ولو جزئيًا – خطًا جماعيًا مرسومًا!
في النفق منعطفات ومنحدرات ونواصي، التقيت فيها أناسًا يُفكر كلٌ منهم في ليلاه، ويُقاتل في سبيل رؤية دوجماطيقية تغشاه (إلا من رحم ربي)، ويبحث عن تبةٍ يقف عليها ليعلو فوق الآخرين بمنطق تبرير الوسيلة بالغاية، ولو كانت الغاية غواية، والوسيلة نكاية، كما التقيت أناسًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمضوا في طريقهم لا يلتفتون، ثابتين على مبدأ، صادقين في القول والفعل، كأنهم خُلقوا من معدن الوفاء، لا تزلهم الدنيا، ولا تفتنهم الزخارف، ولا تشتريهم المناصب.
يُخطئ من يظن أن وجودك في هذا النفق الإداري محض مهمة أو مرحلة عابرة؛ فبمرور الوقت، تُصبح وظيفتك أكثر من مجرد عملٍ تؤديه؛ تتمدد فيك، تسكُن يومك، وتُلون وعيك، وتؤثث وجدانك؛ تقتحم خصوصيتك، وتقتطع من وقتك أكثر مما يفعله أقرب الأصدقاء، وتسرقك من عائلتك حتى في أشد أوقاتهم احتياجًا إليك، بل أحيانًا تنتزعك من نفسك؛ تنفذ إليك من أبواب مفتوحة وأخرى لم تدر أنها موجودة: من شاشة هاتفك في منتصف الليل، من نظرة عابرة في ممر العمل، من نبرةٍ متعجلة، أو من مطلبٍ لا يقبل التأجيل، ولو لم يؤمن به قلبك!
تُقيم فيك وظيفتك حتى أثناء نومك، وتطرق وعيك حتى وأنت تتناول طعامك، أو تقود سيارتك، أو تهم بقسط من الراحة في إجازةٍ لا تُشبه الإجازات، لأنها لا تعرف جدارًا للعزلة، ولا تعترف بما يُسمى خصوصية. تلاحقك الرسائل والمكالمات كأن الزمن كله مُستباح باسم العمل؛ لا تكابد فقط القلق مما يحدث، بل مما قد يحدث، من مهامٍ لم تُنجز بعد، من مطالب مفروضة لا تقتنع بها، ولكنك مطالب بإنفاذها، كأنك تكتب بيدٍ لا تخصك! هكذا تتوالى الأيام، وتغدو مُلزمًا بأن تتقن، لا مهارات العمل، بل أخلاقيات النجاة؛ عليك أن تُتقن فنونًا جديدة للبقاء: فن احتمال التفاهة، والتغاضي عن الخذلان، وتحمل خيبة الأمل حين تأتي دون موعد، والنجاة من مؤامرات صغيرة تُحاك على طاولات أكبر مما تليق بتفاهتها، وأن تبقى قادرًا على الوقوف في وجه الإقصاء، والتآمر، والخذلان، والتقاعس وفقدان الثقة!
عليك أن تُعيد برمجة تفكيرك ووعيك ومشاعرك وأولوياتك، وأن تبتكر تعويذات مختلفة وجديدة للحياة، ليست تعويذات منطوقة، بل تعويذات تُمارسها وتتعايش بها؛ طقوس صغيرة باتت ضرورية: نظرة إلى السماء في نهاية يومٍ شاق، لحظة صدق مع ذاتك، قلمٌ تكتب به لنفسك لا لغيرك؛ أن تُذكر قلبك دومًا بأن كل هذا سيمر، كل هذا سيمر، فليس ثمة شيء باقٍ إلا ما تصنعه أنت في داخلك؛ لا خلود لمشهدٍ زائف، ولا دوام لسلطةٍ عابرة، ولا جدوى من الركض خلف كراسي لم تعرف إلا التملق والتمثيل! وحين تخرج من النفق، لا تخرج فارغًا، وإن خرجت مُتعبًا؛ تخرج وفيك قصة لم تكتبها بعد، لكنها تضغط عليك كي تُروى، بعد أن أُجبرت طويلاً على الاستماع لقصصٍ لم تكن يومًا قصتك، ولم تكن أنت فيها سوى شاهد صامت، أو ضحية تُحسن إخفاء ألمها؛ تخرج لتقولها، أخيرًا، كما هي: صافية، موجعة، خالية من الشعارات ... لكنها لك!
لا يزال طريق الخروج من النفق وعرًا، مثقلًا بالغبار، متعثر الخطى، كأن الأرض نفسها تُقاوم انعتاقك منها. وما زالت بوابة الخروج، على قُربها، تُلوّح لك من وراء ظهرك، لا لتُغريك بما مضى، بل لتذكّرك أن المسافة بين الداخل والخارج ليست دائمًا مادية. ومع ذلك، لا بأس. إذ قد آن لك، وقد تحررت ولو جزئيًا، أن تروي بعضًا من فصول الحكاية التي احتوتك في قلب ذلك النفق؛ حكايةٌ ربما بدت خاصة، بل غارقة في خصوصيتها، لكنها – بحُكم طبيعة النفق وتشابه ملامحه – عامة في عمقها، صارخة في دلالتها؛ يتذوق مرارتها، ويُدرك أبعادها من سار في دربٍ مشابه، خاصة أولئك الذين خاضوا غمار العمل الأكاديمي حين يلتقي فيه الحلم الأكاديمي بجدار الواقع الإداري!
أما وقد خرجت بعقلك مثقلاً لا بمنجزاتٍ أو خيباتٍ تُحصى، بل بتساؤلاتٍ لا تزال مفتوحة، فليس عليك إلا أن تمضي قدمًا، وفي يدك حكاية، وفي قلبك درس، وفي ظهرك ظلٌّ طويلٌ للنفق لن تنساه!