أحدث المنتجات والوصفات

الاثنين، 26 مايو 2025

الذكاء الاصطناعي ومشكلة الخطر الوجودي

الذكاء الاصطناعي ومشكلة الخطر الوجودي


الخطر الوجودي بصفة عامة هو خطر التهديد بالانقراض المبكر للحياة الذكية التي نشأت وتطورت على كوكب الأرض، أو التدمير الدائم والجذري لقدرات البشر على التنمية المستقبلية المرغوبة. ويُعد التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي العام AGI – بالإضافة إلى مشكلات أخرى مُلحة كالتغير المناخي والأسلحة النووية والجوائح الوبائية – أحد أهم مصادر هذا الخطر المُهدد بانقراض البشر أو بكارثة عالمية لا رجعة فيها.

الذكاء الاصطناعي ومشكلة الخطر الوجودي

والحق أن الحُجج الداعمة لهذا التوجه كانت وما زالت محل نقاشٍ واسع من قبل الفلاسفة والعلماء، ولا يتسع المجال لعرضها ومناقشتها في هذا الموضع، لذا نكتفي بالإشارة إلى أهمها، مع التأكيد على أن أي نقاش بصددها إنما يعتمد على ثلاث نقاط؛ أولها ما إذا كان الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الفائق قابلاً للتحقيق؛ وثانيها وجهات نظر العلماء حول السرعة التي يمكن أن تظهر بها أية قدرات أو سلوكيات خطيرة للذكاء الاصطناعي؛ 

وثالثها ما إذا كانت السيناريوهات العملية لسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشر قائمة بالفعل انطلاقًا من المعطيات الحالية، لاسيما بعد ظهور النسخة الأحدث والأخطر من نموذج اللغة الكبير Large Language Model (LLM): 

«جي بي تي-4» GPT-4، وهو النموذج الذي يتفوق على النسخ السابقة من حيث الموثوقية والإبداع والقدرة على معالجة البيانات المعقدة، ويمكنه أيضًا التعامل مع المطالبات الأكثر دقة، بالإضافة إلى كونه متعدد الوسائط، ما يعني أنه تم تدريبه على كل من الصور والنصوص.

سيطرة البشر

على سبيل المثال، يضع الفيلسوف السويدي «نيك بوستروم» Nick Bostrom (من مواليد سنة 1973) حُجته على النحو التالي: 

يُسيطر البشر على الأنواع الحية الأخرى لأن الدماغ البشري يمتلك قدرات مميزة تفتقر إليها هذه الأنواع؛ فإذا تجاوز الذكاء الاصطناعي البشرية في الذكاء العام وأصبح فائق الذكاء، فقد يغدو من الصعب أو من المستحيل السيطرة عليه. وكما يعتمد مصير الغوريلا الجبلية على حُسن نية الإنسان، كذلك قد يعتمد مصير البشرية على تصرفات آلة الذكاء الفائق المستقبلية!

التكهنات بشأن الآلات فائقة الذكاء الأولى

ثمة حُجة مماثلة، وإن اختلفت بنيتها، قدمها الفيلسوف البريطاني «إرفين جون جود» Irving John Good (1916 – 2009) سنة 1965 في مقالٍ له تحت عنوان «التكهنات بشأن الآلات فائقة الذكاء الأولى»، ثم أعاد الفيلسوف الاسترالي «ديفيد تشالمرز» David Chalmers (من مواليد سنة 1966) تنقيحها وصياغتها على النحو التالي:

  • مقدمة 1: سوف يوجد ذكاء اصطناعي AI تم إنشاؤه بواسطة الذكاء البشري HI.
  • مقدمة 2: إذا كان يوجد ذكاء اصطناعي AI فسوف يوجد ذكاء اصطناعي مُضاعف AI+ (يتم إنشاؤه بواسطة AI).
  • مقدمة 3: إذا كان يوجد ذكاء اصطناعي مُضاعف AI+ فسوف يوجد ذكاء اصطناعي مُضاعف مُضاعف AI++ (يتم إنشاؤه بواسطة AI+)
  • نتيجة: سوف يوجد ذكاء اصطناعي مضاعف مضاعف AI++ = التفرد.

تستند هذه الحُجة على ما يُعرف باسم «التفرد» The Singularity، أي النقطة المستقبلية التي يتجاوز فيها الذكاء الاصطناعي الذكاء البشري، وبعدها مباشرةً تصبح الآلات أكثر وأكثر ذكاءً، لتصل إلى مستوى فوق طاقة البشر من الذكاء.

نجاح الذكاء البشري في انشاء ذكاء اصطناعي

والفكرة المركزية للحُجة أنه إذا كان الذكاء البشري سينجح في إنشاء ذكاء اصطناعي، بحيث يكون الأخير بمستوى الذكاء ذاته الذي يتمتع به الأول؛ فسوف يقوم الذكاء الاصطناعي بإنشاء ذكاء اصطناعي فوق مستوى البشر AI+؛ ثم يقوم الأخير بدوره بإنشاء ذكاء اصطناعي فائق AI++ يصل إلى نقطة التفرد، وهكذا.

من المؤكد أن الحجج من النوع السابق تبدو صحيحة من الناحية الصورية، لكنها مع ذلك تثير عاصفةً من الجدل الفلسفي في ضوء الإمكانات الحالية للذكاء الاصطناعي التي تجعل مقدماتها موضع شك، وكذلك في ضوء عدم التطرق إلى ما إذا كانت الآلات الذكية من فئة التفرد AI++ (إن كانت ممكنة) ستُبدي سلوكًا خيَّرًا أو شريرًا. 

ورغم شيوع نزعة التشاؤم؛ حيث يعتقد نصف الباحثين تقريبًا في مجال الذكاء الاصطناعي أن هناك فرصة بنسبة 10% أو أكثر لانقراض البشر بسبب عدم قدرتهم على التحكم في الذكاء الاصطناعي (وفقًا لدراسة نُشرت سنة 2022)، كما وقَّع المئات من خبراء الذكاء الاصطناعي سنة 2023 على بيان مفاده أن: 

«التخفيف من خطر الانقراض الناجم عن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أولوية عالمية إلى جانب المخاطر المجتمعية الأخرى مثل الأوبئة والحرب النووية»، فإن الذكاء الاصطناعي ما زال يمضي في طريقه بقوة، غير عابئ بتحذيرات أربابه أنفسهم، الأمر الذي يُلقي بمزيد من المسؤولية على الفلاسفة، أو على حد تعبير عالم الحاسوب الأمريكي «بيل جوي» Bill Joy (من مواليد سنة 1954) في مقاله «لماذا لا يحتاجنا المستقبل؟»:

إن تقنيات القرن الحادي والعشرين؛ علم الوراثة Genetics، وتكنولوجيا النانو Nanotechnology، والروبوتات Robotics ــ قوية إلى الحد الذي يجعلها قادرة على توليد فئات جديدة كاملة من الحوادث والانتهاكات. 

والأخطر من ذلك، أنه للمرة الأولى، أصبحت هذه الحوادث والانتهاكات في متناول الأفراد أو المجموعات الصغيرة على نطاق واسع، ولن تحتاج إلى مرافق كبيرة أو مواد خام نادرة؛ المعرفة وحدها ستمكن من استخدامها!

خاتمة:

تكشف مناقشتنا أعلاه للعلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والميتافيزيقا عن أن الذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد أداة؛ إنه في الواقع مشروع ميتافيزيقي ضخم يمتد من الماضي إلى الحاضر، ويحملنا قطعًا إلى المستقبل وإن كان غائمًا! ومع تطور هذه العلاقة وتناميها من يومٍ إلى آخر، يبدو أنها تعدنا، ليس فقط بإعادة تعريف وصياغة فهمنا للتكنولوجيا، ولكن أيضًا رؤيتنا الجماعية للعالم ولأنفسنا. 

وبعبارة أخرى، تكشف ثورة الذكاء الاصطناعي عن ملحمة معرفية درامية في المسرح الكبير للوجود البشري، وتدعونا إلى إعادة التفكير في ملامح كياننا وهويتنا، لاستيعاب وجوده الذي لا مفر منه – أي الذكاء الاصطناعي – في كافة تفاصيل حياتنا اليومية.

ينسج الرمز الميتافيزيقي للذكاء الاصطناعي خيوط علم الإدراك واللغويات والمنطق وعلم الأعصاب وعلم الحاسوب وعلم النفس في النسيج الكبير للواقع البشري. 

في هذا المزيج، يشرح علم الإدراك فهمنا واستجابتنا لتأثير الذكاء الاصطناعي، ويشكل علم اللغة تواصل الذكاء الاصطناعي مع الإنسانية، ويشكل المنطق الأساس لصنع القرار في الذكاء الاصطناعي، ويقدم علم الأعصاب نظرة ثاقبة لمخطط الإدراك البشري الذي يحاول الذكاء الاصطناعي تقليده، ويضع علم الحاسوب الأساس لإنشاء وتطوير الذكاء الاصطناعي، ويساعد علم النفس في كشف الاستجابة البشرية لهذا الاضطراب التكنولوجي غير المسبوق، وقبل ذلك كله، ومعه وبعده، تُقدم الميتافيزيقا الرؤية الكلية التي من شأنها أن تُحدد موضع الإنسان والآلة في الكون، ومدى إمكانية تداخلهما، أو تحكم أحدهما في الآخر وفرض قيمه، في المستقبل القريب أو البعيد. 

تضعنا مناقشة الذكاء الاصطناعي كمشروع ميتافيزيقي جديد على مشارف حدود ميتافيزيقية مثيرة، حدود تعج بالأسئلة والاحتمالات التي تعصف بفهمنا التقليدي لجوهر الوجود الإنساني. وبينما نستكشف هذا المشهد المضطرب والمثير، فإننا نتقدم نحو فهم مستنير للوجود، يتسم بالتفاعل الدرامي بين الذكاء الاصطناعي والفلسفة، وهو تفاعلٌ جدلي ديناميكي يُعيد باستمرار تعريفاتنا الدارجة للوجود والهوية والحياة والضرورة والإمكان والزمان والمكان، ... إلخ. 

ولئن كان ثمة إيمان لدى كثرة من الباحثين بإمكانية الذكاء الاصطناعي، انطلاقًا من اعتقادهم بإمكانية إنتاج الذكاء عمومًا بمجرد برمجة الحواسيب بالطرق الصحيحة، فعلينا أن نؤكد أننا ما زلنا حتى هذه اللحظة نتحدث عن ذكاءٍ «اصطناعي»: الذكاء الإلكتروني وليس البيولوجي (الواعي والحُر). 

ولكي نعرف ما إذا كان الذكاء الاصطناعي الفائق ممكنًا، فنحن في حاجة إلى التفكير في طبيعة الظواهر العقلية ذاتها، وإلى مزيد من المعرفة عن طبيعة الإحساس والفكر واللغة: الوعي في حد ذاته ... نحن في حاجة إلى مزيد من الميتافيزيقا!