تُعد فكرة التطور البيولوجي Evolution واحدةً من أهم وأخطر الأفكار التي أفرزها العقل الإنساني عبر سنواتٍ طوال من تأمله لظواهر الكون وتنوع ما يحفل به أحياء.
وبعبارة أخرى هي إحدى تلك الأفكار الكبار التي أدت دورًا كبيرًا في توجيه السلوك الإنساني وتحديد ماهيته، لاسيما منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا.
مفهوم التطور البيولوجي بالمعنى الحرفي
والتطور في لغة العرب هو التحول من طورٍ إلى طورٍ، و«الطَّوْرَ» يعني المرَّة والتّارة، وهو لفظٌ عربيٌ أصيل؛ ففي آي الذكر الحكيم ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾ (سورة نوح: آية 14)؛
أي درَّج خلق الإنسان طورًا بعد طور، بداية من المادة الأرضية غير الحية التي خُلق منها «آدم» عليه السلام، ومرورًا بأطوار النُطفة فالعلقة فالمُضغة فالعظام المكسوة لحمًا، ووصولاً إلى صورته النهائية ذات الروح والعقل التي يتجلى فيها إبداع الخالق عز وجل.
وذلك مصداقًا لقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ* مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخالقين﴾ (ســــــورة المؤمنــــون: الآيات 12 - 14).
وبصفة عامة يمكن تعريف التطور بأنه « نمو بطئ ومتدرج يؤدي إلى تحولات منظمة ومتلاحقة تمر بمراحل مختلفة ويؤذن سابقها بلاحقها؛ كتطور الأفكار والأخلاق والعادات»، ومنه مذهب التطور Evolutionism في العلم والفلسفة؛ وهو وجهة النظر القائلة بأن الكون والحياة بكل مظاهرهما، والطبيعة بكل أوجهها، نتاجٌ للتطور، وذلك أمرٌ يألفة الإنسان العادي، وتُدلل عليه العلوم ببيناتٍ مختلفة؛ فقد بينت دراسات علم الفلك Astronomy مثلاً:
أن الكون – بما فيه مجموعتنا الشمسية Solar system – قد مرَّ بعملية تطور بمقياسٍ كوني خلال أزمنة طويلة للغاية. كما أن الدراسات الجيولوجية تُقدم قرائن قوية على أن كوكب الأرض كان ولا يزال مُعرضًا لعمليات تطورية مستمرة في صفاته الفيزيائية والكيميائية، وهذا هو ما يُعرف بالتطور غير العضوي Inorganic evolution.
التطور العضوي
أما التطور العضوي Organic evolution – أي تطور الكائنات الحية – فالقول به يأتي في مقابل وجهة النظر الدينية القائلة بأن كل نوع من أنواع الكائنات الحية قد أتى إلى الوجود مستقلاً تمامًا بواسطة الخلق الخاص Special creation؛ أي أن الخالق سبحانـه وتعالى خلق كل نوع من أنواع النباتات والحيوانات محتويًا على ذات التركيبات التي نشاهدها فيه الآن – إذ ينظر أصحاب مذهب التطور إلى مختلف الأنواع كنتيجة للتغير Change، والنمو Growth، والتعديل Modification، والتكيف Adaptation، بحيث تؤدي الأنواع بعضها إلى بعض دون أن يكون ذلك مسبوقًا بتخطيط أو مستهدِفًا لغاية.
وبعبارة أخرى، يمكننا القول أن التطور في جملته هو انتقال من المختلف إلى المؤتلف، ومن غير المتجانس إلى المتجانس، ومن اللامحدود إلى المحدود، أو بالعكس، ومن ثم فإن معنى التطور لا يتضمن في ذاته فكرة «التقدم» Progress أو «التدهور» Regression، وإنما يُعبر عن التحولات التي يخضع لها الكائن العضوي أو المجتمع سواء أكانت ملائمة أم غير ملائمة.
ومع كثرة الشواهد العلمية المؤيدة للتطور العضوي، والتي استقاها الباحثون من سبعة فروع مختلفة من علم البيولوجيا، حاول بعض العلماء التوفيق بين وجهتي النظر الدينية والتطورية، وذلك بردَّ التطور إلى قوة عُليا مُوجٍهَّة، بحيث يكون الخلاف بينهما لا في عملية الخلق ذاتها، وإنما في الطريقة التي خُلقت بها الأنواع العديدة من الكائنات الحية، وهو ما سنعرض له لاحقًا.
تاريخ مفهوم التطور البيولوجي بين اللاماركية والداروينية
من جهة أخرى – وعلى العكس مما هو شائع – ليست فكرة التطور وليدة العصر الحديث، وإنما تمتد بجذورها إلى الفكر اليونانــي القديــم، حيث نجــح كل من «طاليس» Thales (حوالي 624 - 546 ق. م)، و«أنكسيمانس» Anaximenes (حوالي 585 - 528 ق. م)، و«إمبادوقليس» Empedocles (حوالي 490 - 430 ق. م)، و«الذريون» Atomists، و«أرسطو» Aristotle (384 – 322 ق. م)، في بناء نماذج مقبولة – مرحليًا – للتطور بصفة عامة، ولكن يبقى لعالم البيولوجيا الإنجليزي «تشارلز روبرت داروين» Ch. R. Darwin (1809 – 1882) فضل تقديم البراهين اللازمة – والقابلة للجدل – لتدعيم القول بالتطور كفرض علمي، لا ينازعه في ذلك إلا صديقه وابن موطنه «ألفرد راسل والاس» A. R. Wallace (1823 – 1913)، وقبلهما معًا عالم البيولوجيا الفرنســي «شيفالييه دي لامارك» Ch. De Lamarck (1744 – 1829) الذي وضـع أول نظرية عامة في التطور، وبه نبدأ أول مقال في سلسلة مقالات عن فلسفة البيولوجيا.