أحدث المنتجات والوصفات

الخميس، 29 مايو 2025

الداروينية ورحلة التطور البيولوجي: رحلة الحياة مستمرة

الداروينية ورحلة التطور البيولوجي

ثانيًا: الداروينية: رحلة تشارلز داروين نحو نظرية التطور

لطالما سحر التطور البيولوجي عقول الفلاسفة والعلماء على مر العصور، محاولين فك شيفرة نشأة الكائنات الحية وتنوعها المذهل. 

ولكن قليلون هم من أحدثوا ثورة في هذا الفهم مثل تشارلز داروين بنظريته عن الداروينية

هذا المقال سيأخذنا في رحلة عميقة لاستكشاف الأبعاد المختلفة لهذه النظرية الرائدة، وكيف غيرت مفهومنا عن الحياة على كوكب الأرض، مركزين على الميكانيزمات الأساسية التي اقترحها داروين وعلى التأثير الهائل للانتخاب الطبيعي في تشكيل هذا العالم المعقد. انضموا إلينا لنكشف أسرار تطور الكائنات الحية وفهم إرث داروين الذي لا يزال يشكل ركيزة علم الأحياء الحديث.

رحلة داروين الاستكشافية ونشأة الفكرة (1831 – 1838)

3 – لمصطلح الداروينية Darwinism معنى ضيق وآخر واسع. يشير المصطلح بالمعنى الضيق إلى تلك النظرية العلمية في التطور العضوي التي قدمها عالم البيولوجيا الإنجليزي «تشالرز داروين» خلال القرن التاسع عشر، بينما يشير بالمعنى الواسع إلى مركب جامع من الأفكار الفلسفية واللاهوتية والاجتماعية والعلمية التي حثت عليها ودعمتها تلك النظرية. وسوف نقتصر في هذا الجزء على شرح المصطلح بمعناه الضيق، أما معناه الواسع فنؤجل تناوله لمقالٍ آخر. 

[3 – 1] – بدأت علاقة «داروين» الجادة بعلم البيولوجيا حين رُشح عام 1831 للعمل – بدون أجر – كخبير أحياء على ظهر السفينة «بيجل» Beagle في رحلتها حول العالم، وهي الرحلة التي اعتبرها «داروين» أهم وأعظم حدث في حياته، ذلك أنها حدَّدت مجال مستقبله كله بعد أن عزف عن دراسة الطب واللاهوت قبل ذلك. 

انطلقت الرحلة يوم 27 ديسمبر عام 1831، واستمرت خمس سنوات، زارت فيها الكثير من جزر المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي وساحلي جنوب أمريكا ونيوزيلنده واستراليا، وجمع «داروين» خلالها كمًا هائلاً من النباتات والحيوانات، المتحجرة والحية، البرية منها والبحرية. وعلى ظهر «البيجل» قرأ «داروين» كتاب «مبادئ الجيولوجيــــــــــا» Principles of Geology (1833) لعالم الجيولوجيا الاسكتلندي «تشارلز ليـــل» Ch. Lyell (1797 – 1875)، فوجَّه انتباهه إلى طبيعة التغير الجيولوجي التدريجي على المدى الطويل، وتمكنت من ذهنه فكرة عمر الأرض الذي يمتد إلى ملايين السنين. 

وبعد عودته بوقتٍ قصير، وفي يوليو من عام 1837، بدأ يكتب أولى مذكراته عن تحول الأنواع، مقتنعًا بأن الأنواع جميعًا تتشتت في اتجاهات مختلفة عندما تُعزل عن بعضها؛ فالأنواع ليست ثابتة، لكنه لم يستطع أن يتخيل الميكانيزم الذي يقف وراء تشتتها. 

وهنا كان اللغز الكبير: 

كيف يمكن تفسير ظهور الأنواع وانقراضها؟ 

لماذا تنشأ الأجناس وتتحور بمرور الزمن وتتفرع إلى عدة أنواع، وتختفي في الغالب من الوجود تمامًا؟ 

عثُر «داروين» على مفتاح هذا اللغز عندما قرأ – بمحض الصدفة – في أواخر عام 1838 كتاب «مقال عن مبادئ السكان» An Essay on the Principles of Population لعالم الاقتصاد الانجليزي «توماس مالتوس» T. Malthus (1776 – 1834). لقد ذهب «مالتوس» إلى أن عدد السكان يتزايد بشكلٍ أسرع من موارد الغذاء على الأرض، ومن ثم لابد من وجود عوامل إعاقة طبيعية أو اصطناعية لإيجاد التوازن بينهما، فإذا كان هذا صحيحًا بالنسبة لكافة الكائنات الحية – كما افترض «داروين» - فمعنى ذلك أن الطبيعة تعمل كقوة انتخابية، تقضي على الضعيف، ليتكون نوع جديد من الأحياء الذين يتوافقون مع بيئتهم، وبهذا الإيحاء المالتوسي وجد «داروين» ضالته، وتكوَّنت لديه أخيرًا – كما يقول – نظرية يمكن أن يعمل على هديها.

الإعلان عن نظرية الانتخاب الطبيعي وكتاب "أصل الأنواع" (1858 – 1859)

[3 – 2] – وبينما كان «داروين» يواصل عمله في صياغة النظرية، وصله في ربيع عام 1858 خطاب من صديقة البيولوجي «ألفرد رسل والاس» وبه مقال عنوانه: «عن اتجاه الأصناف إلى التحول بغير حدود عن شكلها الأصلي» On Tendency of Varieties to Depart Indefinitely from Original Type وكان هذا بالضبط حقيقة من حقائق نظرية «داروين». 

لقد توصل «والاس» إلى نفس النتائج، بل واستخدم دون أن يدري نفس المصطلحات، ولم يكن من حلٍ لهذه الورطة سوى أن يُقدم كل منهما أوراقه في الاجتماع التالي للجمعية اللينائية Linnaean Society، وبناءً على ذلك أُعلن لأول مرة عن نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي في أول يوليو من عام 1858. 

وعلى الرغم من أن البحثين لم يصيبا من أعضاء الجمعية إلا أقل اهتمام، حتى لقول رئيسها في تقريره عن عام 1858: 

«إن العام قد مرَّ دون أن تميزه أية اكتشافات لافتة للنظر تُثور المؤسسة العلمية»، 

إلا أن الحادث ألهب حماس «داروين» فطفق يعمل على استكمال النظرية وإعدادها للنشر، إلى أن ظهر في 24 نوفمبر من عام 1859 كتابه الرئيس: «عن أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي، أو بقاء الأجناس المفضلة في الصراع من أجل البقاء» On the Origin of Species by Means of Natural Selection، or the Preservation of Favored Races in the Struggle for Life. 

ناقش «داروين» الأسس الجوهرية لنظريته في الأبواب الأربع الأولى من كتابه، وتناولت الأبواب الأربع التالية الاعتراضات الممكنة على هذه النظرية، وبعدها تأتي عدة أبواب تتناول تفسير الوقائع الرئيسة لعلم طبقات الأرض، والتوزيع الجغرافي للنباتات والحيوانات، وعلم التقسيم، وعلم الشكل الخارجي للكائنات Morphology، وعلم الأجنة، في ضوء فرض التطور، ويُلخص الباب الأخير كل ما سبق.

ميكانيزمات التطور عند داروين: الانتخاب الطبيعي والجنسي ووراثة الصفات المكتسبة

أما عن ميكانيزمات التطور فقد حدَّدها «داروين» في ثلاثة عوامل، وهي: الانتخاب الطبيعي، والانتخاب الجنسي، ووراثة الصفات المكتسبة. هيا ننظر في كل منها بشيء من التفصيل.

1 – الانتخاب الطبيعي (Natural Selection): جوهر النظرية الداروينية

4 – أعطي «داروين» في كتابه «أصل الأنواع» وزنًا كبيرًا للانتخاب الطبيعي كعامل فعَّال في عملية التطور، بل إن هذا العامل هو جوهر نظرية «داروين» وعنوانها الذي عُرفت به. 

ويمكن إيجاز المراحل التي تمر بها عملية التطور بالانتخاب الطبيعي من خلال النقاط التالية:

  • الاختلافات بين أفراد النوع الواحد: 

[4 – 1] – لاحظ «داروين» أن أفراد أي نوع من أنواع النباتات والحيوانات تختلف عن بعضها البعض اختلافًا يمكن إدراكه، فلا تتشابه جميع أفراد النوع الواحد تشابهًا تامًا – فيما عدا التوائم – بل لابد من وجود اختلافات فردية؛ فالإنسان مثلاً – وهو كائن عضوي – لا تتشابه أفراده تشابهًا تامًا، إذ يوجد منه الذكي والقبيح، والوسيم والقبيح، والطويل والقصير، وأبيض البشرة وأسمر البشرة، ... إلخ. 

هذه الاختلافات هي بمثابة المادة الخام التي يحدث بواسطتها التطور، وبدونها لن يحدث أبدًا، وهو ما يتجلى لنا بصورة أوضح في حالة الأنواع المستأنسة من النباتات والحيوانات التي انتقى منها الإنسان – صناعيًا – أكثرها نفعًا لاحتياجاته، أي تلك التي تتسم بصفات معينة تُميزها عن غيرها، ومع انتقال هذه الصفات من جيل إلى جيل نشأت أنواع جديدة تختلف عن تلك التي كانت موجودة من قبل، حتى أنه قلما يمكن التعرف على أنها تنتمي إلى أسلافها البرية. 

وينبغي أن نلاحظ هنا أن هذه الاختلافات ليست – كما افترض «لامارك» - ناجمة عن تأثير البيئة، وإن كان للبيئة تأثيرٌ محدود في قابلية الكائن الحي للتغيير، كما أنها ليست مفروضة من قبل الكائن الحي نفسه، وإنما تظهر تلقائيًا وفي جميع الاتجاهات، وبمحض الصدفة تكون بعض هذه الاختلافات مفيدة للفرد ومميزة له عن غيره في تكيفه مع البيئة.

  • تكاثر أفراد النوع: 

[4 – 2] – تميل جميع الكائنات الحية للازدياد في العدد بنسبة هائلة للغاية، وتلك حقيقة معروفة جيدًا، فمثلاً السمكة الواحدة من السالمون Salmon تُنتج حوالي 28 مليون بيضة كل موسم، وتبيض بعض أنواع المحار Oysters حوالي 114 مليون بيضة دفعة واحدة، وتُكون بعض أنواع دودة الاسكارس Ascaris حوالي 70.000 بيضة كل 24 ساعة. 
كذلك الحال بالنسبة لذبابة الفاكهة المعروفة باسم «دروسوفيلا» Drosophila، والتي تتم دورة حياتها في فترة تتراوح بين 12 و 14 يومًا، وكل أنثى تضع حوالي 200 بيضة، فلو افترضنا أن جميع البيض الذي باضته ذبابة واحدة قد فقس، وأن جميع الذرية قد عاشت وتكاثرت فوصل عدد الذباب خلال 45 يومًا إلى حوالي 200 مليون ذبابة، فبعد سنة واحدة سيغطي الذباب سطح الكرة الأرضية. 
بل وحتى أبطأ الحيوانات في التكاثر – مثل الأفيال – لديها القدرة على مثل هذا الإسراف في الإنتاج؛ فالفيل يعيش حوالي مائة سنة، ويبدأ في التناسل عندما يبلغ عمره 30 سنة، وإلى أن يبلغ من العمر 90 سنة، وخلال هذه الفترة تلد الأنثى ما لا يقل عن ستة مواليد، ولقد حسب «داروين» عدد الفيلة الناتجة عن زوج واحد منها لو أن جميع الذرية قد عاشت واستمرت في التناسل بنفس المعدل، فوجد أن عددها سيصل بعد 750 سنة فقط إلى أكثر من 19 مليونًا. 
لكن الملاحظ رغم ذلك أن الطبيعة لا تسمح بمثل هذه الزيادة في أفراد النوع، ومن ثم لابد من وجود عوامل تحد من قدرة الكائنات الحية على التكاثر بما يتلاءم وموارد البيئة المتاحة.
  • الصراع من أجل البقاء: 

[4 – 3] – تلك هي عبارة «مالتوس» التي استعارها «داروين» لتفسير الثبات النسبي لعدد كل نوع من أنواع الكائنات الحية؛ إذ لما كانت كمية الطعام وأماكن المأوى والتكاثر محدودة، ولما كانت هناك متغيرات بيئية كانتشار الأمراض وتقلبات المناخ وغيرها، فلابد وأن ينشأ تنافس بين الأفراد في سبيل تلبية احتياجاتها والتغلب على ما يواجهها من عقبات. 

ويكون الصراع على أشده بين أفراد النوع الواحد، ذلك أنها تتنافس على نفس احتياجات الحياة، كما أنه لا يأخذ دائمًا شكل معركة يمكن مشاهدتها بين نوعين أو فردين من نفس النوع، بل هو عملية مستمرة في الطبيعة، تتضمن عدة عوامل كل منها يؤدي إلى هلاك بعض الأفراد. 

هذا فضلاً عن أن الصراع يحدث في أي طور من أطوار الكائن لحي: من طور البيضة التي قد تفشل في عملية الإخصاب، وكذا خلال مراحل تكوين الجنين Embryo، وأثناء الأطوار اليرقية Larval stages أو الطور اليافع Adult. 

ويُعتبر الفرد ناجحًا في الصراع إذا ظل على قيد الحياة حتى تحدث له عملية التكاثر ولو لمرة واحدة.

  • الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح: 

[4 – 3] – تقوم الطبيعة أثناء عملية التطور بدور مُربي النباتات أوالحيوانات، الذي ينتقي منها ويستبقي أفضلها وأصلحها، إذ يؤدي الصراع بين الأفراد إلى بقاء تلك التي تتمتع باختلافات أو صفات مفيدة تمكنها من التكيف مع البيئة أكثر من غيرها. 

أما تلك التي تنقصها الصفات الملائمة للحياة فتخرج عن سباق البقاء وتتعرض للهلاك. ولم يجد «داروين» تعبيرًا يصف به هذه العملية أفضل من تعبير «البقاء للأصلح»، الذي قدمه الفيلسـوف الإنجليزي «هربرت سبنسر» H. Spencer (1820 – 1903) عام 1852 في مقال له بعنوان «نظرية للسكان مستنبطة مــــــن القانـــــــون العـــــــــــــــــام للخصـــــــــوبة الحيوانيــــــــــة» A Theory of Population Deduced from the General Law of Animal Fertility. 

وجديرٌ بالذكر أن «داروين» لم يستخدم هذا التعبير إلا بداية من الطبعة الخامسة لكتابه «أصل الأنواع».

2 – الانتخاب الجنسي (Sexual Selection): صراع الذكور من أجل الإناث

5 – في مقاله المُقدم إلى الجمعية اللينائية، وصف «داروين» الميكانيزم الثانـي للتطور بأنه صراع الذكور على الإناث Struggle of males for females، وقد أعاد «داروين» صياغة هذا الميكانيزم ببعض التفصيل في كتابه «أصل الأنواع»، ليشغل بعد ذلك الجزء الأكبر من كتابه «تسلسل الإنسان والانتخاب بالنسبة إلى الجنس» Descent of Man and Selection in Relation to Sex، الصادر عام 1871. 

ووفقًا لداروين، يُعد صراع الذكور على الإناث بمثابة حالة خاصة لظاهرة أكثر عمومية؛ فلو افترضنا مثلاً وجود نسبة معينة من الذكور والإناث بين أفراد نوع ما، وأن كليهما مفطوران بالمثل على الصراع من أجل البقاء، حينئذ لابد وأن تنشأ اختلافات تزيد من قدرة البعض على الإنجاب، ومن ثم لابد وأن يكون الانتخاب لمصلحة تلك الصفات، حتى ولو تكن مفضلة بالانتخاب الطبيعي، ولذا يُطلق «داروين» على هذه العملية اسم «الانتخاب الجنسي». 

ومن المعروف أن بعض الصفات يمكن أن تزيد من قدرة بعض الأفراد على الإنجاب، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة؛ فبعض الأفراد مثلاً قد تكون لديهم نماذج سلوكية تؤدي إلى تخصيب نسبة كبيرة من البويضات، أو قد تكون لديهم أعضاء للجماع أكثر كفاءة، أو قد تكون لديهم ميزة معينة في المنافسة على الزواج – مثلما هو الحال لدى بعض ذكور الطيور المهاجرة التي تصل مبكرًا إلى أماكن التوالد، فتكون جاهزة لاستقبال الإناث القوية، تاركة تلك الضعيفة للذكور الأخرى المتأخرة في الوصول. 

وقد تُفضل بعض الإناث لسببٍ ما ريش طائر معين من نوعها، أو عَرضِه لصفة تميزه عن غيره، أو قد تطرد بعض الذكور على نحوٍ عدائي ذكورًا أخرى، ... وهكذا. 

من جهة أخرى، قد تكون بعض الصفات المفيدة للفرد في صراعه من أجل البقاء مفيدة له أيضًا في عملية التنافس على الزواج؛ فقرون الوعل مثلاً تؤدي واجبًا مزدوجًا ضد كل من الأعداء من جهة، ومنافسيه على الزواج من جهة أخرى. ولقد لجأ «داروين» إلى القول بالانتخاب الجنسي كتفسير لتطور أشياء مثل طقوس الزواج، والصفات الجنسية الثانوية – كتهذيب الريش في الطيور. بل لقد عوَّل عليه كثيرًا في تطور الإنسان بصفة خاصة؛ فالجسد الخالي من الشعر مثلاً يرجع إلى ميكانيزم الانتخاب الجنسي بين أسلاف الإنسان الذين مالوا إلى الزواج من ذوي الجسد العاري من نوعهم. 

وامتدادًا لهذا التفسير الجنسي الدارويني لتطور الإنسان، يذهب علماء التطور المعاصرون إلى أن العديد من سمات البنية الفيزيائية والشكلية للإنسان مُنتخبة جنسيًا، إذ تميل الذكور عادة إلى الإناث اللواتي يتمتعن بالشباب والخصوبة والصحة والجمال، ... إلخ. 

أما الإناث فيملن إلى الذكور ذوي القوة والغنى والصحة والمكانة الاجتماعية، ... إلخ. وحتى الجوانب الثقافية للإنسان لم تسلم من مثل هذا التفسير؛ إذ لما كان الذكور أكثر إنتاجًا وإبداعًا في مجالات الفن والموسيقى والآداب وغيرها – لاسيما في طور النُضج – فهذه جميعًا إذن ليست سوى مظاهر لغزل الإناث يقف وراءها ميكانيزم الانتخاب الجنسي.

3 – وراثة الصفات المكتسبة (Inheritance of Acquired Characters): ثغرة مؤقتة وحل من علم الوراثة الحديث

6 – لم تكن قوانين الوراثة الحديثة متاحة لداروين وقت أن وضع وطوَّر نظريته، إذ لم يبدأ علم الوراثة الحديث أولى خطواته الناجحة إلا بأبحاث الراهب النمســاوي «جريجــور يوهــان مندل» G. J. Mendel (1822 – 1884) الذي كــان يُجري تجاربـه الوراثية على نبات البازلاء. 

حقًا أن «مندل» قد نشر بحثه الأساسي عن الوحدات الوراثية – التي عُرفت فيما بعد بالجينات Genes – عام 1866، إلا أنها ظلت مجهولة حتى أُعيد اكتشافها عام 1900. وبدلاً من ذلك كانت «الوراثة المزجيـة» Blending inheritance سائدة أيام «داروين»، وبمقتضى هذه الفكرة يمتزج في النسل الأساس المادي لوراثة الأب ووراثة الأم، تمامًا كما تمتزج نقطتان من الحبر تختلفان في اللون لينتج لون وسط بينهما. 

ولكن كيف للتباينات الصغيرة التي تظهر لدى بعض أفراد النوع أن تُحفظ وتبقى بعد التهجين؟ إن أية صفة جديدة تظهر ستُخفَّف بالفعل عند التهجين مع النمط الأصلي، لتختفي بعد فترة فلا تبقى فروق بين الأفراد يعمل عليها الانتخاب الطبيعي، ولقد كانت هذه مشكلة حقيقية أمام «داروين» لم يتمكن أبدًا من حلها. 

ونظرًا لأنه لم يكن هناك سبب علمي واضح لرفض وراثة الصفات لمكتسبة، ونظرًا لأن هذا الميكانيزم اللاماركي بدا ضروريًا لتفسير عملية التطور وما يصاحبها من تغييرات، فقد اتجه «داروين» إلى قبوله، وإلى إعطائه وزنًا كبيرًا في سنواته الأخيرة.

لكن هذه الثغرة الداروينية لم تدم طويلاً، إذ لم يلبث علم الوراثة الحديث أن أخرج الداروينية من عثرتها، ليعيد إليها مكانتها العلمية وتفردها في مقابل اللاماركية، وإن كان ذلك قد تم بعد وفاة «داروين».

ومثل أي كشف علمي جديد وهام، تعرضت نظرية «داروين» لانتقادات علمية تجريبية متنوعة، ولقد تولى «داروين» نفسه الرد على بعض هذه الانتقادات في حدود الإمكانات العلمية المتاحة في عصره، لكن الردود الأكثر دقة جاءت من قِبل علماء البيولوجيا الذين عكفوا على تطوير نظريته، لاسيما خلال القرن العشرين، حيث اتخذت النظرية اسمـًا جديدًا هــو «الداروينية الجديدة» Neo-Darwinism أو النظرية التركيبية الحديثة Modern Synthetic theory، ومن خلالها نعرض لبعض هذه الانتقادات.

تأثير الداروينية على الفكر العربي: رواد النقل والتأويل

  • كان الدكتور «شبل شميل» (1850 – 1917) هو أول ناقل لهذه النظرية إلى اللغة العربية، وكان ذلك في كتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» (1910)، غير أنه لم يكن في ذلك مقتصرًا على نقل الفكرة العلمية وكفى، بل اتخذ منها أداة لإصلاح اجتماعي تربوي شامل – من وجهة نظره – فالإصلاح في رأيه مرهون بالاعتماد علـى العلـم وحده؛ فلا الدين ورجاله، ولا الفلسفة وأصحابها، ولا الأدب ولا الفن بذوات نفع في إقامة مجتمع متحضر؛ فليس في الطبيعة إلا الطبيعة ذاتها، منها ينشأ النبات والحيوان والإنسان، ومن العبث أن نتوجه بأبصارنا إلى ما وراءها فيفلت من ما هو ماثل أمامنا. 

وجاء بعد ذلك «إسماعيل مظهر» (1891 – 1962) فترجم «أصل الأنواع» لداروين، وألف كتاب «ملتقى السبيل» ليرد به على «شبل شميل» من جهة، وعلى «جمال الدين الأفغاني» (1838 – 1898) من جهة أخرى. وكان الأخير قد كتب قبل ذلك بالفارسية رسالته في «الرد على الدهرين» - أي الماديين – بعد أن رأى في نظرية «داروين» خطرًا علـى العقيدة الدينية وعلى الحضارة الإنسانية، مما يوجب على المفكر المسلم أن يتصدى له. 

رأى «مظهر» أن «شبل شميل» قد نقل أصول النظرية عن أتباع «داروين» من الماديين، فأفسد عليه ذلك تفسيره للنظرية تفسيرًا صحيحًا، أما «الأفغاني» فقد نسب لداروين ما لم يقله. وخلاصة الرأي عند «مظهر» أن نظرية النشوء والارتقاء لا تتنافى مع الدين والفلسفة والأدب والفن. 

أنظر: زكي نجيب محمود: من زاوية فلسفية (طـ3، دار الشروق، بيروت & القاهرة، 1982) 

([3]) أحمد مستجير: قراءة في كتابنا الوراثي (دار المعارف، القاهرة، 1999) ص ص 165 – 166. 

([4]) جاكوب برونوفسكي: التطور الحضاري للإنسان (ترجمة أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997) ص 177.