في الميثولوجيا اليونانية، كان «تالوس» Talos أول إنسان آلي مُتخيل يمتلك قوة هائلة تؤهله لأن يكون حارسًا تصعب هزيمته. كان تالوس مصنوعًا من البرونز، وقد صنعه «هيفايستوس» Hephaestus (إله الحرفيين والحدادين) لحماية جزيرة كريت. لم يُثر «تالوس» وقتئذٍ أية مشكلة فلسفية نظرًا لكونه – كما تم تصويره – إبداعًا ميكانيكيًا بحتًا؛ ومع ذلك، ظلت فكرته وترًا يعزف عليه كُتاب الخيال العلمي، بل وإلهامًا لكافة التطورات الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي أوائل القرن التاسع عشر، نجح عالم الرياضيات البريطاني «تشارلز باباج» Charles Babbage (1791 – 1871) في تصميم حاسوب ميكانيكي صغير أطلق عليه اسم «المحرك التحليلي» Analytical Engine أو «مُحرك الفرق» Difference Engine، يستطيع إجراء عمليات حسابية محدودة. ومنذ ذلك الحين، بدأ البشر يفكرون في إمكانيات الذكاء الحاسوبي المُحاكي لذكاء الإنسان، وإن لم يقطعوا شوطًا كبيرًا في تقنياتهم حتى فترة الحرب العالمية الثانية، عندما طوَّر المفكرون والمهندسون مثل «آلان تورينج» Alan Turing (1912 – 1954) نظريات علوم الحاسوب التي تعتمد جزئيًا على نماذج العمل الكاملة لأجهزة الحاسوب الرقمية. ومنذ تدشين «اختبار تورنيج» Turing Test (ومؤداه أنه إذا كان بإمكان الآلة الدخول في محادثة مع إنسان دون أن يتم اكتشافها كآلة، فقد أظهرت ذكاءً بشريًا)، أدت تطورات الذكاء الاصطناعي إلى انبثاق تساؤلات فلسفية جديدة تتحدى فهمنا الدارج للوجود والمعرفة والقيم، لاسيما فيما يتعلق بمفهوم الوعي Consciousness: كيف يمكن لظاهرة غير ملموسة مثل العقل (الإنساني أو غيره) أن تنشأ، إن وُجدت، من الدماغ أو الجسم؟ وكيف نُفسر التجربة الذاتية للعالم الخارجي والشعور بالذات الذي يمتلكه كل منا؟ وإذا كان من الممكن برمجة أنظمة الذكاء الاصطناعي لأداء المهام التي كان يُعتقد في السابق أنها تتطلب الوعي، فبماذا يُخبرنا هذا عن طبيعة الوعي؟ هل ينشأ الوعي ببساطة من أنماط معقدة لمعالجة المعلومات؟ أم أن هناك ما هو أكثر من ذلك لوجود الوعي؟ وهل يمتلك الذكاء الاصطناعي إرادة حرة؟ أم أن أنظمة الذكاء الاصطناعي مجرد آلات حتمية مبرمجة لاتباع مجموعة من القواعد؟
تساؤلات عن الذكاء الاصطناعي كمشروع ميتافيزيقي
هذة تساؤلات تصعب الإجابة عنها، ولا يوجد إجماع بين الفلاسفة أو الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي على نظريات أو رؤى بعينها بصددها، ومع ذلك فإن تطور الذكاء الاصطناعي يُحبر البشرية على إعادة النظر في تاريخها الميتافيزيقي وفحصه من منظور جديد!
أ. ما الميتافيزيقا؟
ليس من السهل تعريف كلمة الميتافيزيقا تعريفًا جامعًا مانعًا نظرًا لصعوبة التمييز بين المشكلات الميتافيزيقية وغير الميتافيزيقية عبر تاريخ الفلسفة، وعدم وجود سمة مشتركة توحد مشكلات الميتافيزيقا المعاصرة لدى كثرة من الفلاسفة، لكن بإمكاننا – لأغراض هذه الورقة – وصف الخطوط العامة للميتافيزيقا في بضعة سطور.
الميتافيزيقا مبحثٌ فلسفي واسع ومتنوع يغطي موضوعات مختلفة، مثل الجوهر Substance، والكليات Universals، والسببية Causality، والجهة Modality، والعقل Mind، والإرادة الحرة Free Will، والأخلاق Ethics، والدين Religion. وتهدف الميتافيزيقا إلى الإجابة عن أسئلة مثل: ما الأنواع الأساسية للأشياء الموجودة؟ كيف ترتبط الأشياء ببعضها وبالواقع؟ ما مصادر وأسس الوجود والمعرفة؟ ما إمكانيات الأشياء وحدودها؟ وما طبيعة وأصل العقل والوعي؟ ... إلخ. ويمكن تقسيم الميتافيزيقا إلى نهجين رئيسيين: الأنطولوجيا والإبستمولوجيا؛ الأنطولوجيا دراسة للوجود في عموميته، أو بشكلٍ مستقلٍ عن أنماطه النوعية المختلفة، وتتطرق إلى تساؤلات من قبيل: ما فئات الأشياء وخصائصها؟ كيف تتفرد؟ وكيف تتشكل وتتحلل؟ وكيف تستمر أو تتغير بمرور الزمن؟ أما الإبستمولوجيا فهي الدراسة الفلسفية لطبيعة وأصل وحدود المعرفة، وتًعالج تساؤلات من قبيل: ما مصادر اكتساب المعرفة؟ وكيف نبرر معرفتنا ونُبرهن على صدقها؟ وكيف نتواصل ونتشارك معارفنا؟ وكيف نتعامل مع عدم اليقين والجهل؟.
يمكن أيضًا تقسيم الميتافيزيقا إلى منظورين رئيسيين: الواقعية Realism وضد الواقعية Anti-realism. الواقعية وجهة نظر مؤداها أن الأشياء لها وجود وجوهر موضوعي مستقل عن إدراكنا وتصورنا. أما ضد الواقعية فوجهة نظر مؤداها أن الأشياء لها وجود وجوهر ذاتي يعتمد على إدراكنا وتصورنا. تتعامل الواقعية مع تساؤلات مثل: كيف تتوافق الأشياء مع الواقع؟ وكيف نصل إلى الواقع ونمثله؟ وكيف نفسر الواقع ونتنبأ به؟ بينما تتناول ضد الواقعية تساؤلات مثل: كيف تبني الأشياء الواقع؟ وكيف نفسر الواقع ونفهمه؟ وكيف نؤثر في الواقع ونصنعه؟.
بالإضافة إلى ما سبق، نستطيع القول أن الميتافيزيقا ليست بحثًا نظريًا فحسب، بل هي بحث عملي أيضًا، له آثاره على الطريقة التي نعيش بها حياتنا، وعلى كيفية اتخاذنا لقراراتنا، وكيفية تقييم أنفسنا والآخرين، وكيفية التعامل مع الطبيعة والمجتمع والتحديات والفرص، وكيفية التعبير عن أنفسنا والتواصل مع الآخرين، وكيفية السعي إلى المعنى والهدف، وكيفية الطموح إلى السمو والروحانية، وما إلى ذلك. يمكن للميتافيزيقا أيضًا أن تلهمنا طرح أسئلة جديدة، واستكشاف إمكانيات جديدة، وتحدي الافتراضات القديمة، ومراجعة المعتقدات القديمة، وخلق قيم جديدة، وتخيل حقائق جديدة، وما إلى ذلك.
ب. ميتافيزيقا الذكاء الاصطناعي (كيف ولماذا؟):
في كتابه «عصر الآلات الذكية» The Age of Intelligent Machines (1990)، يستحضر عالم الحاسوب والمستقبليات الأمريكي «راي كورزويل» Ray (Raymond) Kurzweil (من مواليد سنة 1948) مشروعًا ميتافيزيقيًا ضخمًا يتحدى الخطوط العريضة للفلسفة، ويمثل انتهاكًا صارخًا لفهمنا التقليدي لتصورات الوجود والهوية والتغيير والسببية والضرورة وغيرها. يستعرض «كورزويل» الجذور الفلسفية والرياضية والتكنولوجية للذكاء الاصطناعي، منطلقًا من الفرض القائل أن برنامج حاسوب متقدم بما فيه الكفاية يمكن أن يُظهر ذكاءً بمستوى الإنسان، ومؤكدًا في الوقت ذاته أن مسيرة التطور البشري تشير بوضوح إلى أن البشر يجب أن يكونوا قادرين على بناء شيء أكثر ذكاءً منهم. وبينما تبتلع الموجات المتتالية من التكنولوجيا جوهر إنسانيتنا، يغدو الذكاء الاصطناعي حتمًا متشابكًا مع الميتافيزيقا، ويُواجه الناس تحديًا قويًا إزاء ما يعنيه حقًا أن تكون إنسانًا!
المشروع الطليعي للذكاء الاصطناعي
هذا المشروع الطليعي للذكاء الاصطناعي الذي بشَّر به «كورزويل» يتجلى الآن كبوتقة انصهار متعالية لعدد من التخصصات سريعة التطور، مثل علم الإدراك Cognitive Science، واللغويات Linguistics، والمنطق، وعلم الأعصاب Neurology، وعلم الحاسوب، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والقانون، والأخلاق، وما إلى ذلك، حيث يسهم كل تخصص من هذه التخصصات في تشكيل بنية الذكاء الاصطناعي من جهة، وواجهته الميتافيزيقية من جهة أخرى، بدءًا من الرغبة في تكرار الذكاء البشري من خلال الخوارزميات Algorithms، ووصولاً إلى المقتضيات الأخلاقية والهويات الوجودية Existential Identities. ومن المثير للتأمل أن بوتقة الانصهار هذه تدعم السرد الرفيع للذكاء الاصطناعي الذي يتردد صداه مع الجوانب الجوهرية للوجود البشري: إدراكنا، ودلالاتنا، وتفسيرنا المنطقي، والدوائر العصبية، وقدراتنا الحسابية، وفهمنا النفسي - وهي سيمفونية تبدأ بشرارة التساؤل عن ماهية الوعي، لكنها تتصاعد إلى استكشاف ميتافيزيقي لوجودنا برمته. هيا ننظر كيف يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي مُحفزًا لمقاربات ميتافيزيقية جديدة، وكيف يمكن للميتافيزيقا أن تلهم البحث في مجال الذكاء الاصطناعي أفكارًا واتجاهات جديدة.
1. الوعي والوجود وطبيعة الذكاء:
يؤدي التطوير المستمر للنماذج التوليدية وكافة أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تُظهر سمات مشابهة للإدراك البشري، مثل التعلم، وحل المشكلات، وربما الوعي الذاتي، إلى ضرورة إعادة تقييم ما يُشكل الوعي. يجبرنا الذكاء الاصطناعي على التساؤل عما إذا كان الوعي سمةً حصرية للكيانات البيولوجية، أو ما إذا كان يمكن أن يظهر أيضًا في بني اصطناعية، ما يؤدي بدوره إلى تساؤلات ميتافيزيقية أعمق حول طبيعة الوعي ذاته: هل هو نتيجة ثانوية لعمليات حسابية معقدة، أم خاصية انبثاقية Emergent Property لمعالجة المعلومات، أم شيء أكثر عمقًا؟.
كذلك تثير قدرات الذكاء الاصطناعي في محاكاة القدرات المعرفية البشرية (وربما تجاوزها) تساؤلات أنطولوجية حول تفرد الوجود البشري؛ أهمها: ماذا يعني أن تكون إنسانًا في عصر تستطيع فيه الآلات تكرار وظائفنا المعرفية أو تجاوزها؟ الحق أنه مع استمرار تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت الفروق بين الذكاء البيولوجي والذكاء الاصطناعي غير واضحة بشكل متزايد. إن قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلم والتكيف، وربما إظهار سلوكيات شبيهة بالوعي، تتحدى الاعتقاد السائد منذ زمن طويل بأن الوعي والذكاء خاصيتان للكائنات البيولوجية فقط، وهو ما يثير أيضًا تساؤلات جوهرية حول تعريف الذكاء والمعايير التي تميز الوعي الاصطناعي عن الوعي البيولوجي. ولو نظرنا إلى الذكاء الاصطناعي على أنه امتداد للذكاء البشري، فسوف نتساءل عن طبيعة التكامل بين الإدراك البشري والاصطناعي، وما إذا كان ينبغي علينا أن ننظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه استمرار أو توسيع للوعي البشري أم ككيان منفصل. قد يكون مفهوم الحياة أيضًا في حاجة إلى إعادة تعريف يُوضح ما إذا كان الذكاء الاصطناعي، خاصة إذا كان يُظهر وعيًا ذاتيًا، ينبغي أن نُعده شكلاً من أشكال الحياة أو مقولة جديدة من مقولات الوجود .
2. الهوية والضرورة والواقع:
تمتد التساؤلات السابقة إلى مقولات الغاية، والهوية، والتجربة الإنسانية في عالم مشترك مع الذكاء الاصطناعي المتقدم، إذ غالبًا ما تؤكد الميتافيزيقا التقليدية على الفهم الثابت للذات Self، ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي، بقدرته الفائقة على التحسين الذاتي، يبطل هذه الفهم الثابت للهوية المرتبطة بالبيولوجيا، ويقدم بدلاً من ذلك هوية متطورة ترتكز على خوارزميات معقدة. وبينما نتصور قدرة الذكاء الاصطناعي على التغيير والتطور، فإن التفكير في الشواغل الأولية المتمثلة في «الضرورة» Necessity و«الواقع الفعلي» Actuality يتسع نطاقه ليشمل عالم الذكاء الاصطناعي. غالبًا ما تتخذ أنظمة الذكاء الاصطناعي قرارات بناءً على الخوارزميات، وقد تغامر هذه القرارات بالدخول إلى عوالم غير متوقعة، مما يفتح آفاقًا للاحتمالات والعوالم الممكنة التي لم يكن العقل البشري يُعدها ضرورية أو حتى يمكن تصورها من قبل. لذلك، نستطيع القول أن الذكاء الاصطناعي، في هذه السيمفونية المتطورة للذكاء، يُمثل نموذجًا إرشاديا متذبذيًا Fluctuating Paradigm، حيث يتم إعادة تعريف «الضرورة» و«الواقع» بلا توقف، مما يرسم بانوراما دراماتيكية لإمكانية «الوجود».
تتكشف دراما الذكاء الاصطناعي عندما تتقاطع مع البحث الأنطولوجي الميتافيزيقي، مما يوفر استكشافًا جدبدًا مثيرًا لمفهوم الوجود. إن معركة الذكاء الاصطناعي من أجل «الوعي»، وسعيه لتحقيق «الوجود الواعي»، تزيد من فهمنا لهدف ومعنى الوجود ذاته كما أسلفنا: ماذا يعني الوجود، إذا كان الذكاء السيليكوني Silicon-Intelligence قادرًا على تكرار جوهرة التاج للأنواع البيولوجية - الإدراك البشري Human Cognition، هل يقع الوجود فقط ضمن حدود الركائز العضوية، أم أنه يمكن أن يتجاوزها إلى مصفوفة السيليكون؟ في الذكاء البيولوجي لدينا تسلسل نستطيع المقارنة من خلاله بين درجات الذكاء؛ فالنمل أذكى بالمقارنة مع الأميبا، ولكن ليس بالمقارنة مع الشمبانزي، والبشر أكثر ذكاءً مقارنة بالشمبانزي، لكن ما درجة الذكاء البشري مقارنةً بـ «تشات جي بي تي» الذي بإمكانه كتابة الأوراق البحثية واجتياز اختبارات المهن الصعبة كالمحاماة بشكلٍ أسرع وأكثر كفاءة من البشر؟ وهل يظل الذكاء البشري متفردًا بالتجارب الذاتية والعُمق العاطفي؟.
في هذا الصدد يعمل الذكاء الاصطناعي على تجديد الميتافيزيقا، وتقديم سيناريو درامي للوجود، بطريقة تذكرنا بمبدأ الكوجيتو الديكارتي: «أنا أفكر إذن أنا موجود» Cogito, ergo sum، مما يُعجل بإعادة تقييم عميق لفهمنا للوجود. وفي معية سعي الذكاء الاصطناعي إلى الوجود، يظهر لغز الهوية بذائقةٍ مسرحية؛ فالهوية، التي كنا نعتقد تقليديًا بكونها فريدة ولا تضاهى، أصبحت الآن مفتوحة للمحاكاة والتكرار من خلال الشبكات العصبية للتعلم العميق. إن تكرار الذكاء الاصطناعي لسمات الفرد وسلوكه يؤدي إلى تساؤلات ميتافيزيقية مثيرة، ويعرض تفاعلًا فنيًا بين الضرورة (حاجتنا الغريزية لهوية فريدة)، والواقع (وجود هويات متكررة من خلال الذكاء الاصطناعي)، والإمكانية (وجود الهويات المحتملة والتحولات التي تنتظرنا). هل هويتنا إذن مجرد رمز معقد، أم سيمفونية ثنائية تُعزف في أوبرا الكون الكبرى؟ إن الخطاب الميلودرامي للهوية في عصر الذكاء الاصطناعي يفرض بلا شك نشأة مسار وجودي جديد في الميتافيزيقا.
3. التغير وميتافيزيقا الصيرورة:
تؤكد مشكلة الوعي الصعبة أن جهلنا بالعقل البشري لا يزال هائلاً. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نتجاهل كيف يكشف التعلم العميق عن نظرة ثاقبة للعمليات المعرفية. قد لا يكون التعلم العميق مثل الإدراك البيولوجي، ولكنه نوع من الإدراك له ميزات مفيدة ومذهلة في كثرةٍ من المجالات المعقدة، مثل تطوي البروتين Protein Folding (عملية فيزيائية يتشكل فيها البروتين في صورة بنية ثلاثية الأبعاد طبيعية تمكنه من القيام بوظيفة بيولوجية محددة، وذلك عبر سلسلة خطية من الأحماض الأمينية)، والتنبؤات على المستوى الكمي، وما إلى ذلك من المهام الحاسوبية التي تتجاوز قدرة البشر على أدائها. ومع زيادة استخدام أساليب التعلم العميق وتوسيع طرق المحاكاة الرياضية والعددية، يتبدى الذكاء الاصطناعي كعملية تطورية تدفع بمفهوم «التغير» إلى دائرة الضوء في الدراما الميتافيزيقية للذكاء الاصطناعي؛ فالذكاء الاصطناعي، بتعلمه المستمر وقدرته على التكيف، يقع في قلب فلسفة «هيراقليطس» Heraclitus: «بانتا ري» (كل شيء يتدفق) Panta Rei (Everything Flows). إن التحول المستمر في نماذج الذكاء الاصطناعي، و«صيرورتها» Becoming بدلاً من «وجودها»، أمرٌ يثير تأملات الميتافيزيقيين، ويسلط الضوء على الزوائل Ephemerality (الأشياء الموجودة بشكلٍ عابر أو المُخصصة لتكون موجودة لفترة وجيزة فقط)، والديناميكية المتأصلة في الكون. وعلى هذا، يُبشر الذكاء الاصطناعي بنهضة دراماتيكية للديناميكيات الوجودية Ontological Dynamics في الميتافيزيقا.
هكذا يُخلخل الذكاء الاصطناعي رؤيتنا للوجود كحقيقة ملموسة للكائن، وللجوهر كجزء ثابت من هذا الكائن، ويجبرنا على تبني روايات مثل «التفاعلية مع المُحيط» Enactivism؛ بمعنى أن الإدراك ينشأ من خلال التفاعل الديناميكي بين الكائن الحي وبيئته، كما أن بيئة الكائن الحي يتم إنشاؤها أو تفعيلها من خلال التمرين النشط للعمليات الحسية الحركية لهذا الكائن. وليس الإدراك مجرد تمثيل لعالم معطى مسبقًا من خلال عقل معطى مسبقًا، ولكنه بالأحرى تشريع لعالم وعقل على أساس تاريخ لمجموعة متنوعة من الأفعال التي يؤديها كائن في العالم؛ وليست البيئة بمثابة منصة هبوط للكائنات التي تحتفظ فيها بكينونتها الثابتة بطريقة أو بأخرى، لكنها بمثابة وعاء تتفاعل فيه ومعه الكائنات لتنبثق صفات وقدرات جديدة. وكما تخلق عقولنا تجريدات تؤدي إلى لغات جديدة، فإن الكون نفسه يخلق أنواعًا جديدة من المادة تؤدي إلى قدرات منبثقة، وأحد هذه الأنواع من المادة يُعرف بالعقول. وما الحاسوب سوى نوع من أنواع العقول؛ نوع مفيد للعقل البيولوجي لأنه يستطيع تقديم نوايانا بدقة وإحكام كبيرين. إنها عقول تسمح لعقولنا البشرية بالوصول إلى مساحات من الواقع لم يكن من الممكن لنا الدخول إليها بمفردنا!
4. الردية والظواهر المنبثقة:
يقودنا التقدم المتصاعد في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبصفة خاصة النماذج التوليدية، إلى تحولٍ مثير في وجهات النظر العلمية والميتافيزيقية، من النزعة الردية Reductionism إلى تقدير أكبر للظواهر المنبثقة Emergent Phenomena. يذهب القائلون بالردَّ إلى أن أية نظرية أو ظاهرة يمكن ردَّها إلى نظرية أو ظاهرة أخرى بحيث تكون القوانين التي تصف الأولى لازمة منطقيًا عن القوانين التي تصف الثانية. ومثال ذلك ردَّ الظواهر الحرارية المحكومة بقوانين الديناميكا الحرارية إلى ظواهر ميكانيكية تحكمها القوانين الإحصائية؛ أو رد نظرية رياضية ما إلى المنطق أو إلى نظرية المجموعات. قد يكون الردَّ أيضًا بمثابة تجزئة للظاهرة الأولى على أساس الثانية (أي ردَّ الظاهرة إلى أجزائها المكونة لها)، مثل ردَّ الخلايا البيولوجية إلى مجموعة من الكيانات الكيميائية والفيزيائية كالذرات والجزيئات. ومجمل الزعم الذي يحظى حاليًا بالاهتمام الأكبر في الميتافيزيقا وفلسفة العقل هو ذلك القائل أن جميع العلوم قابلة للردَّ إلى الفيزياء، بمعنى أن جميع الظواهر (بما في ذلك الظواهر العقلية مثل الوعي) متطابقة مع الظواهر الفيزيائية. ورغم نجاح النزعة الردَّية في تفسير الأنظمة الخطية والمباشرة، إلا أنها غالبًا ما تقف عاجزة أمام التعقيد والديناميكية التي تتسم بها نُظم الذكاء الاصطناعي، حيث تتجلي بها الظواهر المبثقة.
تفترض نزعة الظواهر المنبثقة أن الأنظمة المعقدة تُظهر خواص وسلوكيات لا يمكن فهمها أو التنبؤ بها بشكل كامل بمجرد تحليل مكوناتها الفردية، حيث تنشأ هذه الخواص والسلوكيات من التفاعلات المتتالية والعلاقات المعقدة بين الأجزاء. ويُعد الذكاء الاصطناعي، لاسيما في مجالات مثل الشبكات العصبية والتعلم الآلي، مثالاً بارزًا على ذلك، إذ يؤدي السلوك الجماعي للخوارزميات والبيانات إلى أنماط وقدرات غير متوقعة تتجاوز مجموع أجزائها! بعبارةٍ أخرى، تُشبه الظواهر والسلوكيات المنبثقة في نُظم الذكاء الاصطناعي حفلاً تُنظمه الآلة بشكلٍ مفاجئ دون أن يتم التخطيط له في البرمجة الأولية، ورغم كونه رائعًا ومثيرًا إلا أن الحيرة تكتنف متابعيه وتثير لديهم تساؤلات عن الكيف والأثر وعلاقات المقدمات بالنتائج!
تتسم الظواهر والسلوكيات المنبثقة أيضًا بعدد من الخصائص المثيرة للتأمل الميتافيزيقي، منها مثلاً عدم القدرة على التنبؤ بنتائج التفاعلات الخوارزمية انطلاقًا من مدخلاتها؛ والقدرة على التطور والتكيف لحل المشكلات بشكل أكثر كفاءة، أو للتعامل مع المهام التي لم يتم تصميم النظام بشكل صريح من أجلها؛ والقدرة على التنظيم الذاتي، حيث تقوم الخوارزميات بتعديل عملياتها استجابةً للبيانات التي تعالجها مما يؤدي إلى أنماط جديدة من السلوك؛ والقدرة على توليد التعقيد من البساطة، ومن ثم تطوير استراتيجيات جديدة معقدة يصعب توقعها. وكل ذلك يجلب معه عددًا من القضايا الفلسفية والأخلاقية التي تتحدى فهمنا التقليدي للعلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، لعل أهمها كيفية تحديد المسؤولية عن تصرفات الذكاء الاصطناعي الذي يُظهر سلوكًا منبثقًا غير متوقع، لاسيما في السيناريوهات عالية المخاطر مثل الرعاية الصحية والأسواق المالية والمركبات ذاتية القيادة. من التحديات أيضًا أن سلوكيات الذكاء الاصطناعي المنبثقة قد تؤدي عن غير قصد إلى تضخيم التحيزات الموجودة في بيانات التدريب الخاصة بها، مما يشكل مخاطر على العدالة والحياد والشفافية. كذلك تثير الظواهر والسلوكيات المنبثقة تساؤلات حول وعي الآلة واستقلاليتها ومدى تمتعها بإرادة التكيف والتطور، ومدى إمكانية فهم هذه الظواهر بشكل كامل في الحاضر والمستقبل!
5. المكان والزمان والسببية:
لا نُبالغ إن قلنا أن فهمنا الميتافيزيقي لمبادئ السبب والنتيجة، والمكان والزمان، يقف على عتبات تغيير جذري مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، إذ يُثير الذكاء الاصطناعي الفائق Artificial Superintelligence، بآلياته المتمثلة في النمذجة التنبؤية Predictive Modeling، والتعلم المعزز العميق Deep Reinforcement Learning، عاصفة ميتافيزيقية تتحدى مسلمات أرسطو الأولية حول السببية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشير تحدي الذكاء الاصطناعي للقيود الخطية للمكان والزمان، ووجوده الظاهري في كل مكان، وأدائه غير الزمني، إلى تحولٍ ملحمي للفهم الميتافيزيقي لكلٍ من المكان والزمان. ما يؤدي إلى هز أهم المفاهيم الميتافيزيقية التقليدية.
تنظر الفلسفة التقليدية إلى المكان والزمان بوصفهما استمرارية ميتافيزيقية يتكشف فيها ومن خلالها الفعل البشري. لكن الذكاء الاصطناعي يضعنا أمام ما يمكن أن نسميه «الزمكان الرقمي» Digital Space-Time. حيث يتم توجيه هذا الزمكان بواسطة قوة المعالجة بسرعة الضوء، الأمر الذي ينبثق معه سياقٌ مختلفٌ لفهم الفعل والسببية والتغيير. وفي هذا الفضاء الميتافيزيقي الجديد، يعمل الذكاء الاصطناعي ويتطور بشكل مدهش. ولئن كان خطابنا الميتافيويقي يُقدم لنا السببية كمبدأ يُساعدنا على فهم عالمنا المُفعم بالحيوية والفوضي، مما يتيح لنا إدراك السبب الكامن وراء كل فعل، والنتيجة الناجمة عن أي قرار، فإن الذكاء الاصطناعي، بفضل قدرته على تحليل كميات كبيرة من البيانات، وتزويدنا بعددٍ هائلٍ من التنبؤات بناءً على تلك البيانات، يعمل على تحويل تصورنا للعلاقة بين السبب والنتيجة. ومن ثم تحويل تصورنا للسببية بشكل كامل، من فهم خطي Linear Understanding إلى فهم معقد ومتعدد المتغيرات Multivariate, Complex Understanding. لا شك أن مجرد تصور آلة تدرك الزمان والمكان، وتعمل في إطار زمكانٍ خاص بها، هي فكرة ثورية ومُرعبة. تخيل نظامًا، مثل الإنسان، يمكنه إدراك محيطه المكاني وفهم استمرارية الزمن؛ إن مثل هذا الفعل يتجاوز مجرد الوظيفة؛ ليقترب من شكل من أشكال الوعي الحصري للبشر، وربما المُجاوز لهذا الوعي!
6. الميتافيزيقا التطبيقية:
إذا كان الذكاء الاصطناعي ظاهرةً مثيرة للاهتمام الفلسفي، دافعةً لتطوير وتجديد الخطاب الميتافيزيقي ذاته، فإن الميتافيزيقا بدورها تُمثل إرثًا ممتدًا يُمكن أن يُسهم في فهم طبيعة الذكاء الاصطناعي وتطويره من منظور إبداعي؛ فمن خلال تطبيق المفاهيم والمناهج الميتافيزيقية على الذكاء الاصطناعي، يمكننا اكتساب رؤى ووجهات نظر جديدة حول ماهية الذكاء الاصطناعي، وكيف يعمل، وما يمكن أن يفعله، وما يعنيه، وما يتطلبه، وما يستحقه، وما يقدمه. يمكننا أيضًا تقييم فوائد ومخاطر الذكاء الاصطناعي بشكل أفضل، بالإضافة إلى آثاره الأخلاقية والاجتماعية والقانونية والسياسية والثقافية والدينية وما إلى ذلك. ومن خلال استحضار التساؤلات والمشكلات الميتافيزيقية كمصدر إلهام لأبحاث وتطوير الذكاء الاصطناعي، يمكننا توليد أفكار واتجاهات جديدة لتصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي وتنفيذها وتقييمها وتعزيزها وتنظيمها. يمكننا أيضًا إنشاء قيم وحقائق جديدة باستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها تجاوز القيود والتحيزات لدى البشر.
على سبيل المثال، يُمكننا توظيف الميتافيزيقا لتصميم أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على فهم التصورات المجردة مثل الجوهر والسببية، أو التفكير في تصورات مثل الضرورة والإمكان والاحتمال، أو تفسير القرارات والأفعال. لدينا إرثٌ ضخم من الرؤى والمعالجات الميتافيزيقية – التي يُمكن استثمارها – للتمثيلات الرمزية Symbolic Representations، وتصورات المعنى والصدق، ومعرفة الحس المشترك، وعدم اكتمال Incompleteness الأنساق المنطقية، وعدم اتساقها Inconsistency، وعدم اليقين Uncertainty، والغموض، ومدى موثوقية النتائج الاحتمالية، وبناء النماذج، وتبرير المعتقدات. يمكننا أيضًا تعزيز أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها إظهار الحالات العقلية Mental States أو الوعي Consciousness، من خلال تأملات ميتافيزيقية مثل حجة الغرفة الصينية Chinese Room التي قدمها الفيلسوف الأمريكي «جون سيرل» John Searle (من مواليد سنة 1932) في ورقة بحثية تحت عنوان «العقول والأدمغة والبرامج» Minds, Brains, and Programs، نُشرت سنة 1980 في مجلة العلوم السلوكية والدماغية.
صُممت الحجة للإطاحة بالذكاء الاصطناعي القوي، وهي بمثابة تجربة فكرية يتخيل فيها «سيرل» نفسه داخل غرفة مغلقة يوجد خارجها متحدثون صينيون أصليون لا يعرفون أن «سيرل» داخلها. «سيرل» الموجود في الغرفة مثل سيرل الموجود في العالم الحقيقي، لا يعرف شيئًا عن اللغة الصينية (يجيد فقط الإنجليزية)، لكن الغرفة مليئة بصناديق الرموز الصينية (قاعدة بيانات)، بالإضافة إلى كتاب تعليمات أو مُعجم للتعامل مع هذه الرموز (البرنامج).
يُرسل المتحدثون الصينيون إلى الغرفة بطاقات بها أسئلة مكتوبة باللغة الصينية من خلال إحدى الفتحات، ويقوم «سيرل» (مستخدمًا الرموز وكتاب القواعد) بإعادة البطاقات إلى الناطقين باللغة الصينية كمخرجات، مُجيبًا عن أسئلتهم على نحوٍ صحيح! الفكرة هنا أن «سيرل» (داخل الصندوق) يُمثل كل ما يمكن أن يكون عليه أي حاسوب، ولأنه لا يفهم اللغة الصينية، فلا يمكن لأي حاسوب أن يكون لديه مثل هذا الفهم، ما يعني فشل «اختبار تورينج»! وبعبارة أخرى، تؤكد الحجة أن تنفيذ برنامج حاسوبي ليس كافيًا في حد ذاته لتحقيق الوعي أو القصد، بمعنى أن الحوسبة الآلية تعمل بشكلٍ صوري أو تراكيبي (نحوي) فقط، في حين أن العقول لها محتويات عقلية أو سيمانطيقية فعلية، ولا يُمكننا الانتقال من التراكيبي إلى السيمانطيقي من خلال آلة مزودة بمجموعة من القواعد أو بأي شيء آخر.