أحدث المنتجات والوصفات

السبت، 3 مايو 2025

الذكاء الاصطناعي وميتافيزيقا المستقبل

 

الذكاء الاصطناعي وميتافيزيقا المستقبل

تحديات الخطاب الفلسفي في عصر التحول الرقمي والنمذجة التوليدية

    لا شك أن ثمة علاقة جدلية بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي تفوق في ثرائها واتساعها علاقة الفلسفة بكافة العلوم الأخرى، تأسيسًا على مشاركة الذكاء الاصطناعي للفلسفة في كثرة من المفاهيم، كالعقل، والوعي، والضرورة، والإمكانية، والوجود، والهوية، والسببية، والزمان والمكان، ونظرية المعرفة، وحتى الإرادة الحرة. تُركز هذه الدراسة على تحليل بعض المفاهيم الميتافيزيقية المشتركة بين المجالين المتلاحمين من وجهة نظر كل منهما؛ فلئن كانت الفلسفة تُقدم غالبًا النصيحة لممارسي علمٍ ما حول ما يُمكنهم وما لا يُمكنهم فعله، فمن الضروري أن نعكس المسار المعتاد جزئيًا في ضوء تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وننظر فيما يُمكن أن يُقدمه هذا الأخير من نصائح لفلسفة المستقبل، لاسيما فيما يتعلق بإمكانية قيام ميتافيزيقا تُوفر أساسًا نظريًا لتصميم أنظمة اصطناعية ذات معتقدات، قادرة على التفكير والتخطيط.

     ثمة أفكار لدى عدد من الفلاسفة، ومنهم الفيلسوف الألماني «فريدرك نيتشه» Friedrich Nietzsche (1844 – 1900)، ذات صلة بشكل خاص بالعلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي. لقد اعتقد «نيتشه» مثلاً أن الحقيقة بناءٌ إنساني، وأنه لا توجد حقيقة موضوعية، كما كان يعتقد أن الوعي البشري يتطور باستمرار، وأن أفكارنا حول الواقع تتشكل من خلال اللغة التي نستخدمها لوصفه. هذه الأفكار ذات صلة بشكل خاص بتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي والنماذج التوليدية، حيث تم تصميم هذه الأنظمة والنماذج للتعلم من البيانات، ومن ثم فإن فهمها للعالم يتشكل من خلال اللغة والبيانات التي يتم تغذيتها بها. وبهذا المعنى، يُعد الذكاء الاصطناعي امتدادًا للوعي البشري وانعكاسًا لأفكارنا عن الواقع. ومع ذلك، يُشكل الذكاء الاصطناعي أيضًا تحديًا لأفكار «نيتشه» وغيره، ذلك أن تقدم أنظمة الذكاء الاصطناعي قد يضعنا أمام شكلٍ من أشكال الوعي المستقل عن الفكر البشري، ما يثير التساؤل حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تطوير إحساسه الخاص بالحقيقة والواقع، وما إذا كان قادرًا على تحدي فهمنا لهذه المفاهيم!

    بعبارة أخرى، تُثير تطورات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي (وعلى رأسها النمذجة التوليدية) عددًا من التساؤلات الفلسفية العميقة التي تتحدى فهمنا الفلسفي الدارج للوجود والمعرفة والقيم، ما يؤدي إلى خلخلة المشكلات الميتافيزيقية التقليدية، وإثارة مشكلات جديدة تتمحور حول الرغبة في تكرار الذكاء البشري من خلال الخوارزميات، وتدشين عوالم افتراضية ذات بنية إبستمولوجية وهويات وجودية وقيم أخلاقية مختلفة. وبالتالي، فنحن في حاجة إلى ميتافيزيقا جديدة، تَعِد بإعادة بناء فهمنا للتكنولوجيا من جهة، ورؤيتنا الجماعية للواقع من جهة أخرى؛ وتُعيننا على فهم أفضل لماهية الذكاء الاصطناعي، وكيف يعمل، وما يتطلبه، وما يستحقه، وما يقدمه، بالإضافة إلى تقييم أفضل لفوائده ومخاطره، وآثاره الأخلاقية والاجتماعية والقانونية والسياسية والثقافية والدينية وغيرها، وهو ما نسعى إلى تبيانه في هذا المقال.

أولاً: الفلسفة والذكاء الاصطناعي (جدلية الحوار):

    للفلسفة تاريخٌ طويل من الحوار الجدلي مع الذكاء الاصطناعي، ولئن كان حاضرنا ومستقبلنا لا يمكن فصله بحالٍ من الأحوال عن الحوسبة واللغات الاصطناعية والنماذج التوليدية، فمن الطبيعي، بل ومن الضروري، أن تكون الفلسفة قادرة على فهم وإعادة كتابة تاريخها في ضوء هذه التطورات المتسارعة وغير المسبوقة. لقد تواجد الفلاسفة لفترة أطول بكثير من أجهزة الحاسوب وأنظمة الذكاء الاصطناعي، ومع ظهور هذه الأخيرة، سعوا جاهدين إلى معالجة عدد من التساؤلات المُلحة ذات الصلة بتصوراتهم ومقولاتهم التقليدية: كيف يعمل العقل؟ وهل من الممكن للآلات أن تتصرف بذكاء مثل البشر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل لديها عقول حقيقية واعية؟ وما الآثار الأخلاقية الناجمة عن تطوير الألات الذكية؟ وهل من الممكن إنشاء ذكاء اصطناعي حقيقي؟ ... إلخ.

    إن القول بأن الدماغ البشري يتمتع بقدرات تفوق بكثير، في بعض النواحي، قدرات جميع الأشياء المعروفة الأخرى في الكون، هو أمر مثير للجدل؛ فالدماغ هو العضو الحي الوحيد القادر على فهم أن الكون موجود بالفعل، أو معرفة سبب وجود عدد لا متناهي من الأعداد الأولية، أو إدراك أن التفاح يسقط بسبب انحناء الزمكان، أو أن التمسك بغرائزنا الفطرية يمكن أن يكون أمرًا أخلاقيًا، أو أنه (أي الدماغ) موجودٌ في حد ذاته. ولا تقتصر قدرات الدماغ الفريدة على مثل هذه الأمور الإبستمولوجية، بل إن ثمة حقيقةً فيزيائية باردة مؤداها أننا النوع الوحيد من الأجسام التي يمكنها النفاذ إلى الفضاء والعودة دون ضرر، أو التنبؤ بضربة نيزك ومنعها، أو تبريد الأجسام إلى جزء من المليار من الدرجة فوق الصفر المطلق، أو البحث عن الحياة داخل مجرتنا المترامية الأطراف وخارجها، ومع كل هذا، لا يوجد دماغ على وجه الأرض يقترب حتى الآن من معرفة ما يفعله الدماغ ذاته من أجل تحقيق أي من هذه الوظائف!

    هنا تكمن معضلة الجوار الجدلي بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي، فالجديد تكنولوجيًا يعصف بالقديم فلسفيًا، ويًطالبه بإعادة النظر في تصورات الوجود والمعرفة والقيم، ويقوده قسرًا إلى مساحات رمادية لا تنجلي إلا بالدماغ ذاته المُراد هيكلته؛ فما الذكاء الاصطناعي حقًا؟ وما أنماطه الموجودة والمنتظرة؟ وهل يمكن أن نأمل في مستقبل تصالحي بين البشر ومُخرجات عقولهم. هذا ما نبدأ به.

أ‌.        ما الذكاء الاصطناعي:

     حتى وقتٍ قريب، كان أغلب الباحثين، وربما العامة وغير المتخصصين، ينطلقون في بحوثهم ومعالجاتهم واستخداماتهم للذكاء الاصطناعي وكأن لديهم فهمًا دقيقًا وواضحًا لطبيعته، أو تعريفًا كافيًا ووافيًا له كعلمٍ نوعي. لكن الفلاسفة يعرفون أكثر من أي شخص آخر أن تعريف حقلٍ بحثي معين بدقة بما يرضي كافة الأطراف ذات الصلة (بما في ذلك أولئك الذين يعملون في الحقل ذاته) يُمثل بالفعل تحديًا كبيرًا. من المؤكد أن العلماء وفلاسفة العلم قد اقترحوا تفسيرات موثوقة لما يُشكل على الأقل الإطار العام لمجال بحثي معين، ولكن ما هو بالضبط التعريف المتفق عليه للفيزياء؟ وماذا عن علم الأحياء؟ بل وماذا عن الفلسفة ذاتها؟ هذه تساؤلات تصعب الإجابة عنها، لاسيما إن كان الهدف هو وضع تعريف متفق عليه. لذا، ربما كان المسار الأكثر حكمة الذي يمكننا أن نسلكه هنا في معية هذه الصعوبة هو تقديم بعض التعريفات المقترحة للذكاء الاصطناعي.

    هذا بعينه ما فعله عالما الحاسوب الأمريكيان «ستيورات رسل» Sturat Russll (من مواليد سنة 1962)، و«بيتر نورفيج» Peter Norvig (من مواليد سنة 1956)، في كتابهما التعليمي: «الذكاء الاصطناعي: مقاربة حديثة» Artificial Intelligence: A Modern Approach (1995، 2002، 2008)، المعروف اختصارًا باسم «آيما» AIMA، حيث قدما عددًا من الإجابات المحتملة عن السؤال «ما الذكاء الاصطناعي؟»، مع التأكيد على أن كل الإجابات إنما تفترض أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يتم تعريفه من حيث أهدافه، وبالتالي يتخذ التعريف المرشح شكلاً واحدًا هو: «الذكاء الاصطناعي هو المجال البحثي الذي يهدف إلى بناء كذا و/ أو كذا»، بينما تتنوع أهداف البناء من تعريفٍ إلى آخر. قد يكون الهدف هو بناء أنظمة مطابقة في أدائها للسلوك البشري، أو بناء أنظمة تُفكر مثل الإنسان (آلات ذات عقول بالمعنى الحرفي)، أو بناء أنظمة تُفكر فحسب بعقلانية، أو تُحاكي فقط الأداء الإنساني (أتمتة السلوك الذكي).

    من المنظور التاريخي أصبح مصطلح الذكاء الاصطناعي شائعًا بعد «مشروع بحث دارتموث الصيفي حول الذكاء الاصطناعي» سنة 1956 والذي تم تحديد أهدافه على النحو التالي: 

«تهدف الدراسة إلى المُضي قدمًا على أساس التخمين القائل بأن كل جانب من جوانب التعلم أو أية سمة أخرى من سمات الذكاء يمكن من حيث المبدأ وصفها بدقة شديدة، بحيث يمكن صنع آلة لمحاكاتها. وسوف نقوم بمحاولة للكشف عن كيفية جعل الآلات تستخدم اللغة، وتشكل التجريدات والتصورات، وتحل أنواعًا من المشكلات المخصصة الآن للبشر، وتُحسن نفسها. ونحن نعتقد أنه يمكن تحقيق تقدم كبير في واحدةٍ أو أكثر من هذه المشكلات إذا عملت مجموعة مختارة بعناية من العلماء معًا على حلها ... »!

   بهذا المشروع وأهدافه، يمكن فهم الذكاء البشري أو الإدراك أو نمذجته بوصفه حوسبة قائمة على القواعد بدلاً من التمثيل الرمزي، بحيث يمكن اختبار النماذج من خلال تشغيلها على عتاد حوسبي (اصطناعي) مختلف. وإذا نجحت هذه النماذج، فإن أجهزة الحاسوب التي تقوم بتشغيلها ستُظهر ذكاءً اصطناعيًا، ومن ثم يغدو الذكاء الاصطناعي وعلم الإدراك Cognitive Science وجهان لعملة واحدة. ويُعرف هذا البرنامج عادةً باسم «الذكاء الاصطناعي الكلاسيكي» Classical AI، ووفقًا له يمكن تعريف الذكاء الاصطناعي بأنه «برنامجٌ بحثي لإنشاء وكلاء آليين يعتمدون على الحاسوب ويتمتعون بالذكاء».

    من جهة أخرى، غالبًا ما يُستخدم مصطلح الذكاء الاصطناعي في علم الحاسوب بمعنى يمكن أن يندرج تحت مسمى «الذكاء الاصطناعي التقني» Technical AI، أو «الذكاء الاصطناعي التطبيقي» Applied AI بحيث نقول: «الذكاء الاصطناعي مجموعة من مناهج علم الحاسوب تهدف إلى بناء أنظمة ذكية قابلة للتطبيق (البحث والبرمجة المنطقية والتفكير الاحتمالي والأنظمة الخبيرة والتحسين وهندسة التحكم والهندسة العصبية والتعلم الآلي وما إلى ذلك)». وثمة أقلية من الباحثين أيضًا يدعون إلى التركيز على طموحات التعريف الأول، مع الحفاظ على المنهجية الحالية الموضحة في التعريف الثاني، ويحدث هذا عادةً تحت مسمى «الذكاء الاصطناعي العام» Artificial General Intelligence (AGI)، حيث يغدو الهدف مُركزًا على بناء آلات تُفكر ولا يمكن تمييز قدرتها الفكرية الشاملة عن قدرة الإنسان، وإن كان بعضهم الآخر يرى أن هذا الأخير لا يستحق المتابعة، بل ولا ينبغي لنا أن نستخدم أصلاً مصطلح «الذكاء الاصطناعي» لأنه يحمل في طياته ادعاءات قوية ما زالت تستعصي على العمل البحثي الفعلي الحالي. ربما ينبغي لنا أن نتحدث عن التعلم الآلي Machine Learning، أو آلات دعم القرار Decision-Support Machines، أو مجرد الأتمتة Automation، وهو ما نجده مثلاً في تقرير عالم الرياضيات البريطاني «سير مايكل جيمس لايت هيل» Sir Michael James Lighthill (1924 – 1998)، المنشور سنة 1972 تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي: مسح عام» Artificial Intelligence: A General Survey.

    مع ذلك، وعلى الرغم من أننا لم نقترب بعد من بناء آلة ذات قدرات بشرية أو قادرة على التصرف بعقلانية في جميع السيناريوهات، فإن الخوارزميات التي تعود أصولها إلى أبحاث الذكاء الاصطناعي أصبحت الآن منتشرة على نطاق واسع لأداء كثرة من المهام في مجموعة متنوعة من المجالات، وهو ما يدعونا إلى إلقاء نظرة سريعة على مفهومي التعلم الآلي والتعلم العميق.

    يشير التعلم الآلي Machine Learning إلى دراسة أنظمة الحاسوب التي تتعلم وتتكيف تلقائيًا من التجربة، وتعمل على تحسين أدائها في مهمةٍ ما عند تزويدها بأمثلة للأداء المثالي في المهمة، أو من خلال الخبرة المتكررة في المهمة. وبعبارة أخرى، التعلم الآلي نمط من أنماط الذكاء الاصطناعي يمكنه التكيف تلقائيًا مع الحد الأدنى من التدخل البشري، حيث تتبع الآلة مجموعة خطوات رياضية منطقية ومتسلسلة (تُسمى «خوارزمية» Algorithm) لتحليل واستخلاص الاستنتاجات من كمية من البيانات التي تتم تغذيتها بها، وكلما ازدادت كمية البيانات أصبحت أفضل في أداء المهمة أو اتخاذ القرار

وقد تم استخدام خوارزميات التعلم الآلي في أنظمة التعرف على الكلام Speech Recognition Systems، ومُرشحات البريد العشوائي Spam Filters، وأنظمة كشف الاحتيال عبر الإنترنت Online Fraud-Detection Systems، وأنظمة توصية المنتجات Product-Recommendation Systems، وما إلى ذلك. ويمكن تقسيم تكنولوجيا التعلم الآلي إلى ثلاثة مجالات:

1.  التعلم الخاضع للإشراف Supervised Learning، وهو شكل من أشكال التعلم يحاول فيه الحاسوب تعلم وظيفة معينة في أمثلة معينة.

2.  التعلم غير الخاضع للإشراف Unsupervised Learning، وفيه يحاول الجهاز العثور على معرفة أو معلومات مفيدة عند إعطائه بعض البيانات الأولية (أ1، أ2، أ3، ...، أن) دون تحديد وظيفة مرتبطة بالمدخلات. ويُعد استخراج البيانات أحد استخدامات التعلم غير الخاضع للإشراف، حيث يتم البحث في كميات كبيرة من البيانات للحصول على معلومات مثيرة للاهتمام. ومن أمثلته خوارزمية «بيج رانك» PageRank التي يستخدمها محرك البحث جوجل Google لتصنيف صفحات الويب دون أي إشراف بشري.

3.  التعلم المُعزز Reinforcement Learning، وفيه يتم إطلاق الآلة في بيئة تعمل فيها وتدرك باستمرار، ولا تتلقى ردود فعل على سلوكها إلا في بعض الأحيان في شكل مكافآت أو عقوبات.

    أما التعلم العميق Deep Learning فهو مجموعة فرعية من التعلم الآلي يتم فيه استخدام الشبكات العصبية الاصطناعية لتقليد عملية التعلم في الدماغ البشري. وعلى حين يمكن لخوارزميات التعلم الآلي أن تتعلم من مجموعات صغيرة نسبيًا من البيانات، وتحتاج عمومًا إلى التصحيح البشري عندما تخطئ في شيء ما، تتطلب خوارزميات التعلم العميق مجموعات ضخمة ومتنوعة من البيانات المترابطة بشكلٍ غير خطي، ويمكنها تحسين نتائجها من خلال التكرار دون تدخل بشري. ويمكن أن يكون التعلم العميق خاضعًا للإشراف، أو غير خاضع للإشراف، أو شبه خاضع للإشراف Semi-Supervised، أو خاضعًا للإشراف الذاتي Self-Supervised، أو مُعززًا، ويعتمد ذلك في الغالب على حالة الاستخدام وكيف يُخطط المرء لاستخدام الشبكة العصبية.

    في العقود القليلة الماضية، حدث ما يُمكن أن نسميه «انفجارًا» في البيانات التي لا تحتوي على أية دلالات واضحة مرتبطة بها، ولا يُمكن معالجتها آليًا بسهولة، وهي بيانات يتم إنشاؤها من قبل كل من البشر والآلات، كالصور والنصوص ومقاطع الفيديو (على عكس البيانات المنسقة بعناية في قواعد البيانات). وقد أدى ذلك إلى ظهور صناعة ضخمة تطبق تقنيات الذكاء الاصطناعي للحصول على معلومات قابلة للاستخدام من مثل هذه البيانات الهائلة. ويُطلق على هذا المجال أسماء مثل استخراج البيانات Data Mining، والبيانات الضخمة Big Data، والتحليلات Analytics، وما إلى ذلك. وهذا المجال واسع للغاية بحيث لا يمكن تغطيته بشكل معتدل في هذا الموضع.

أ‌.        فلسفة الذكاء الاصطناعي:

    فلسفة الذكاء الاصطناعي هي مجموعة من القضايا والمناقشات التي تهتم في المقام الأول بما إذا كان الذكاء الاصطناعي ممكنًا أم لا، وما إذا كان من الممكن بناء آلة تفكير ذكية أم لا، والأهم من ذلك ما إذا كان من الأفضل أن نُعد البشر والحيوانات الأخرى بمثابة آلات (روبوتات الحوسبة، على سبيل المثال). ولعل إحدى أهم الطرق أيضًا لفهم فلسفة الذكاء الاصطناعي هي أنها تتعامل بشكل أساسي مع ثلاثة أسئلة كانطية الصياغة: ما الذكاء الاصطناعي؟ ماذا يمكن أن يفعل الذكاء الاصطناعي؟ ماذا ينبغي أن يكون الذكاء الاصطناعي؟ ولذا بدأنا بتعريف الذكاء الاصطناعي من خلال أهدافه ووظائفه.

     من جهة أخرى، تُعد أخلاقيات الذكاء الاصطناعي فرعًا رئيسًا من فروع فلسفة الذكاء الاصطناعي، ورغم استقلال هذا الفرع نسبيًا عن الأطروحات الأنطولوجية والإبستمولوجية التي نُركز عليها في هذه الورقة، تنبغي الإشارة إلى أن ثمة تفرقة بين أخلاقيات الحاسوب Computer Ethics من جهة، وأخلاقيات الآلة Machine Ethics من جهة أخرى؛ فالأولى تعني بمعالجة القضايا الأخلاقية المرتبطة باستخدام الإنسان لأجهزة الحاسوب، أو بكيفية تصرف المرء في فئة معينة من المواقف المرتبطة باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ أما الثانية (وتُسمى أيضًا «أخلاقيات الروبوت» Robot Ethics، و«الذكاء الاصطناعي الأخلاقي» Moral AI، و«الروبوتات الأخلاقية» Moral Robots)، فتركز على إضافة أو ضمان القرارات والسلوكيات الأخلاقية للآلات الذكية، أو – بعبارة أخرى - ضمان أن سلوك الآلات تجاه المستخدمين من البشر، وربما تجاه الآلات الأخرى أيضًا، مقبول أخلاقيًا، فهي إذن أخلاقيات يجب أن تتحلى بها الآلات كأشياء، وليس البشر كمصنعين ومستخدمين لهذه الآلات. ولا تنفصل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بشقيها عن مجموعة من التساؤلات الأساسية للفلسفة، منها مثلاً: هل يمكن للحاسوب أن يكون واعيًا؟ هل يمكن أن يتمتع بالحس الأخلاقي؟ هل ستكون لدينا واجبات تجاه الحواسيب والروبوتات التي تفكر؟ على سبيل المثال، هل من الأخلاقي أن يحاول البشر أصلاً بناء آلة ذكية؟ وإذا قمنا ببناء مثل هذه الآلة، فهل سيكون إيقاف تشغيلها بمثابة جريمة قتل؟ وإذا كان لدينا جنسٌ من هذه الآلات، فهل سيكون من غير الأخلاقي أن نجبرها على العمل لدينا؟ ... إلخ.

    في إطار فلسفة الذكاء الاصطناعي أيضًا، تُخبرنا النظرية الحاسوبية للعقل Computational Theory of Mind (أو مذهب الحوسبة Computationalism)، أن عقولنا تُشبه الحواسيب في عملها؛ أي أنها تتلقى مدخلات من العالم الخارجي، ثم تُنتج بالخوارزميات مخرجات في شكل حالات ذهنية أو أفعال. وبعبارة أخرى، تذهب النظرية إلى أن الدماغ لا يعدو أن يكون مُعالج معلومات؛ حيث يكون العقل بمثابة «برمجيات» (سوفت وير) تعمل على «جهاز» هو الدماغ (هارد وير). وما دام العقل مجرد برمجيات تخضع للحوسبة الفيزيائية بواسطة الأدمغة، فمن الممكن إذن منطقيًا نقلها إلى أي حاسوب مثلما نقوم بنقل أية برمجيات أخرى. في هذا الصدد، تنطلق أغلب مقاربات الذكاء الاصطناعي من تمييز وضعه الفيلسوف الأمريكي «جون روجرز سيرل» John Rogers Searle (من مواليد سنة 1932) بين نوعين من الذكاء الاصطناعي: «الذكاء الاصطناعي الضعيف» Weak AI، و«الذكاء الاصطناعي القوي» Strong AI؛ الأول، ويُعرف أيضًا باسم «الذكاء الاصطناعي المتخصص» Specialized AI، أو «الذكاء الاصطناعي الضيق» Narrow AI، أو «الذكاء الاصطناعي التطبيقي» Applied AI، يُركز على أتمتة مهام مُحددة، ويعمل في ظل كثرة من القيود من أجل إتقان هذه المهام وأدائها بشكلٍ أفضل من البشر؛ أما الثاني، ويُعرف كذلك باسم الذكاء الاصطناعي العام Artificial General Intelligence (AGI)، فيهدف إلى توليد عقلٍ حقيقي Actual Mind، أو بالأحرى محاكاة الذكاء العام للإنسان، بل والتصرف واتخاذ القرارات وتنفيذ الأفعال بالطرق البشرية ذاتها، وهو قادر على حل المشكلات والتخطيط للمستقبل وفقًا للمعرفة الحالية والتكيف مع البيئة مع حدوث التغييرات

يقول «سيرل»:

    «وفقًا للذكاء الاصطناعي الضعيف، فإن القيمة الأساسية للحاسوب في دراسة العقل هي أنه يمنحنا أداة قوية جدًا، حيث يمنحنا القدرة – على سبيل المثال – على صياغة واختبار الفرضيات بطرقٍ أكثر صرامة ودقة. ولكن وفقًا للذكاء الاصطناعي القوي، فإن الحاسوب ليس مجرد أداة لدراسة العقل، بل إن الحاسوب المبرمج بشكلٍ مناسب هو في الواقع عقل، بمعنى أنه يمكن القول حرفيًا أن الحواسيب التي تم تزويدها بالبرامج الصحيحة تفهم وتمتلك مهارات معرفية أخرى ... وبعبارةٍ أخرى، البرامج ليست مجرد أدوات تُمكننا من اختبار التفسيرات النفسية؛ بل إن البرامج هي نفسها التفسيرات!

  مع ذلك، تنبغي الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي الضعيف هو أنجح إنجاز للذكاء الاصطناعي حتى الآن، ولا نُغالي إن قلنا أن كل الذكاء الاصطناعي المتوفر اليوم لا يعدو أن يكون ذكاءً اصطناعيًا ضعيفًا. ولعل أحد أشهر الأمثلة على هذا النوع من الذكاء هو الحاسوب العملاق «ديب بلو» Deep Blue الذي طورته شركة «آي بي إم» IBM الأمريكية للحواسيب والبرمجيات (شركة الآلات التجارية الدولية International Business Machines Corporation). كان «ديب بلو» أول حاسوب يفوز بلعبة أو مباراة أمام عقل بشري خبير في ظل ضوابط زمنية قياسية، حيث تغلب على الخبير الروسي وبطل العالم السابق للشطرنج «جاري كيموفيتش كاسباروف» Garry Kimovich Kasparov (من مواليد سنة 1963) في مباراة من ست جولات؛ فاز «كاسباروف» بالأولى، وهُزم في الثانية، ثم تعادل في ثلاثة، لكنه هُزم بسرعة وقسوة في الجولة الأخيرة! وبعد الهزيمة صرَّح قائلاً: «لقد رأيت أحيانًا ذكاءً عميقًا وإبداعًا في حركات الآلة»

كذلك تستطيع تطبيقات المساعدة الذكية، مثل «سيري» Siri (تطبيق لشركة أبل، على نظام تشغيل «آي أو إس» iOS)، و«أليكسا» Alexa (تطبيق شركة أمازون Amazon)، و«كورتانا» Cortana (تطبيق شركة ميكروسوفت)، ضبط التذكيرات والبحث عن المعلومات عبر الإنترنت والتحكم في الأضواء في منازل الأشخاص بفضل الذكاء الاصطناعي الضعيف وقدرته على جمع معلومات المستخدمين ومعرفة تفضيلاتهم وتحسين تجاربهم بناءً على التفاعلات السابقة. كما تستخدم السيارات ذاتية القيادة شبكات عصبية عميقة من الذكاء الاصطناعي الضعيف لاكتشاف الأشياء المحيطة بها، وتحديد المسافة التي تفصلها عن السيارات الأخرى، وتحديد إشارات المرور. وفي كل مرة تقوم فيها بالتسوق على موقع أمازون، أو تقوم بتصفح ملف الأخبار الخاص بك على فيسبوك أو تويتر، يتم تخصيص كل ما تراه على الصفحة باستخدام الذكاء الاصطناعي الضعيف حتى تتمكن من اتخاذ الإجراءات التي تريد الشركة منك القيام بها!

    أما الذكاء الاصطناعي القوي فما زال وجوده الفعلي متعذرًا، ولا نجد أمثلة له إلا في أدبيات الخيال العلمي، تلك التي تٌقدم لنا شكلاً من أشكال اليوتوبيا Utopia أو الديستوبيا Dystopia. لكن احتمال أن يصبح الذكاء الاصطناعي القوي متقدمًا جدًا لدرجة أنه يتفوق على الذكاء والقدرات البشرية يولد أيضًا قدرًا كبيرًا من المخاوف، لاسيما بعد ظهور بعض نماذج المحولات التوليدية المُدربة مُسبقًا، مثل «تشات جي بي تي» ChatGPT، وهو برنامج للدردشة تم إطلاق نسخته الأولى (GPT-3.5) في الثلاثين من نوفمبر سنة 2022، وسرعان ما جذب الانتباه لردوده التفصيلية وإجاباته الواضحة عبر العديد من مجالات المعرفة. أما النسخة الأحدث من المُحولات (GPT-4) فقد تم إطلاقها في الرابع عشر من مارس سنة 2023، وهو نموذج لُغوي ضخم متعدد الوسائط (يقبل النصوص والصور كمدخلات).

    الشعور بالفزع – كما عبَّر عنه عددٌ من خبراء ومُطوري الذكاء الاصطناعي – يعكس مدى خطورة هذه التقنية التي تُبشر بما يُعرف الآن باسم الذكاء الفائق Superintelligence، وهو نوع من أنواع الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يحاكي الذكاء البشري ويتفوق عليه بكل الطرق التي يمكن تصورها، ويدفع بنا إلى منزلق الخطر الوجودي Existential risk، الأمر الذي يستدعي كالعادة تدخل الفلسفة. يُعبر الكاتب والمدون البريطاني «إيان ليسلي» Ian Leslie عن ذلك بقوله: «لا شك أن ثمة موضوعًا واحدًا يجب أن يصبح أكثر أهمية في عصر الذكاء الاصطناعي، ألا وهو هو الفلسفة»!

    قبل أن نناقش ذلك بشيء من التفصيل، نشير في عُجالة إلى نقطتين مترابطتين؛ الأولى أن فلسفة الذكاء الاصطناعي ليست في الحقيقة مجرد فلسفة تطبيقية، إذ لا تعني ببساطة أن ثمة حلولاً جاهزة في صندوق أدوات الفيلسوف يُمكننا بها مجابهة المشكلات التي يُثيرها الذكاء الاصطناعي الفعلي، الحالي والمُحتمل، بل هي بالأحرى فحصٌ وتحليل وتغيير للمفاهيم الأنطولوجية والإبستمولوجية التي تحملنا قسرًا إلى حالةٍ أقل تمركزًا حول الإنسان، وبالتالي فنحن نقلب رؤيتنا الفلسفية رأسًا على عقب مثلما فعل «ماركس»، فإذا أردنا أن نفهم الذكاء الاصطناعي، علينا أن نفهم أنفسنا؛ وإذا أردنا أن نفهم أنفسنا، علينا أن نفهم الذكاء الاصطناعي! أما النقطة الثانية فتتعلق بالتمييز بين فلسفة الذكاء الاصطناعي وما يُمكن أن نسميه الذكاء الاصطناعي الفلسفي Philosophical AI، فهذا الأخير ذكاءٌ اصطناعي، وليس فلسفة؛ لكنه متجذر في الفلسفة وينبع منها. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يتعامل مع إحدى المفارقات باستخدام أدوات وتقنيات الفلسفة، ويتوصل إلى حل مقترح، لكنه ينتقل بعد ذلك إلى خطوة تُعد بالتأكيد اختيارية للفلاسفة: التعبير عن الحل بمصطلحات يمكن ترجمتها إلى برنامج حاسوبي يتغلب على الأمثلة الملموسة للمفارقة الأصلية!

     تقترب هذه الرؤية مما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي «دانييل دينيت» Daniel Dennett (من مواليد سنة 1942) من أن الذكاء الاصطناعي مجرد فلسفة (وعلم نفس على الأقل من النوع الإدراكي Cognitive Sort)، بمعنى أنه يستلهم الإبستمولوجيا التقليدية في كونه طرحًا أكثر عمومية وتجريدًا للسؤال الكانطي «كيف تكون المعرفة ممكنة» من أعلى إلى أسفل، أو بوصفه استقصاءً أكثر تجريدًا حول إمكانية الذكاء والمعرفة. وعلى نحوٍ أكثر وضوحًا، يرى «دينيت» أن الذكاء الاصطناعي هو محاولة لتفسير الذكاء، ليس من خلال دراسة الدماغ على أمل تحديد المكونات التي يمكن رد الإدراك إليها، وليس عن طريق هندسة وحدات معالجة المعلومات الصغيرة التي يمكن البناء عليها من القاعدة إلى القمة، ولكن من خلال تصميم وتنفيذ خوارزميات مجردة تلتقط الإدراك، ولهذا السبب يقول إن النهج من أعلى إلى أسفل. لكن هذه الرؤية في الحقيقة تنطوي على مبالغة، لأن الذكاء الاصطناعي يقتصر هدفه على الحلول الآلية، وبالتالي فهو ليس معنيًا بالمجال الكانطي لكافة أنواع الذكاء الممكنة (بل ما يمكن تحقيقه ميكانيكيًا فقط)؛ كما أن الذكاء الاصطناعي (على الأقل من النوع القوي) هو في الواقع محاولة لإثبات أن الذكاء في أساسه حوسبي، لكن معالجات الفلسفة وعلم النفس للذكاء والإدراك تتجاوز هذه المحاولة إلى رؤى غير مشحونة بمتطلبات الميدان التطبيقي الحالي. أضف إلى ذلك أن معظم الباحثين والمطورين في مجال الذكاء الاصطناعي مهتمون ببساطة ببناء منتجات مفيدة ومربحة، ولا يقضون كثيرًا من الوقت في التفكير في أنواع التعريفات المجردة للذكاء وما ينبثق عنها من مشكلات تؤرق الفلاسفة!